اللوحة: الفنان الألباني جوزيف كوتيه
ترجمة مهدي النفري

-١-
- الحبيبة
يا حبيبتي في هذا اليوم الذي اعتراه رَمادُ الرِّنجة، أخطُّ لكِ رسالةً تهبُّ فيها الرِّيحُ بعنفوان، والنَّوارسُ المحمولة على أكتاف الهواء ترسمُ دوائرها الحزينة في الميناء. حبالٌ حديد خشب، وأحرفٌ زرقاء بيضاء، وشباكٌ، براميل، وأكياسٌ بلاستيكية، قوائمُ، حاويات، وآلاتٌ لا يطولها فهمي، صوارٍ، أعلامٌ، نوافذ، سُفُنٌ قَدِمتْ من كل مكان وعانقتْ كلَّ مكان، ولا حاجة لي لأيِّ سؤال فكلُّ شيءٍ هنا موجودٌ ومُكتمل.
وأنتِ خبيرةُ البحر تبحرين عليه، تُصارعينها لأجل ما قد تفقده. فكلُّ سفينةٍ تَرْسو هنا الآن هي سفينةٌ كنتِ على متنها، وكلُّ نورسٍ يحلقُ هنا الآن هو نورسٌ أَبصرته عيناكِ أيضًا، وأنا أحبُّكِ. أظنُّ. لا بل أنا متأكدةٌ من هذا. ولكن كم أنا مبتهجةٌ لأنكِ تَمْلكين مُحِبًّا بالفعل، فكلُّ شيءٍ هنا مُكتمل. وأنا أُغرمُ كلَّ الغرامِ بالشَّوقِ وأهوى كلَّ الهوى الخلوةَ، وأعشقُ كلَّ العشقِ فكرةَ أنَّ الشيءَ يُمْكن أن يكون لو كان مقدَّرًا له أن يكون.
-٢-
- وبعدئذٍ
يرقدُ الفتى الأكثر سِحراً في الليلة بمحاذاتكِ. ما من كاميرا تستطيع أن تلتقط صورةً لما تراه عيناكِ الآن. هل قُربه منّي هو بهذا القرب المُطلق تمامًا؟ تتساءلين في سرِّك. ثمَّ ينصرف فكركِ إلى الناس وهم يهرعون نحو البحر، إلى الحيوانات وهي تلهو معًا، إلى هِرَّةٍ صغيرة ضاعت في تشابك خيوط أريكتكِ، إلى العصفور الدوريِّ الذي استراح بين كفَّيكِ. حالةُ ذهولٍ. لم تري عصفورًا قطّ بهذا القُرب المُدهش.
ليتني لا أضطر إلى التوغل فيهما، في هاتين العينين، ليت ذلك المخلوق لا ينظر إليَّ، لا يجلس على جريدتي، لأنكِ ستكونين مُجبرةً حينها على مداعبته ثانيةً، بيديْن تقودينهما بوعيٍ تام، بينما تفكرين أريد أن أستمر في القراءة وأنكِ لن تصيري أبدًا أمًّا صالحةً. ثمَّ بعد مُضيِّ وقتٍ تضطرين إلى إزاحة ذلك الحيوان عن جريدتكِ فتُحرمين من القراءة لدقائق طويلةٍ بسبب الشعور بالذنب وبسبب الحزن، لأنكِ لن تصيري أمًّا.
أفضلُ طريقةٍ عانقتُ بها البحر كانت بالاستلقاء على ضفتهِ. لا تضطرين لسؤال البحر عن شيء كهذا. لكن كيف لكِ أن تفعلي ذلك مع الفتى الأكثر سِحراً في الليلة؟
-٣-
- نشيد لمن لا ينسجمون
أعشقُ إيكاروس الذي أدرك أن الشمع سيسيل ومع ذلك انطلق محلقًا صوب الشمس. أعشقُ الفتاة التي لمحَتْ بالفعل مدى زرقة لحية “ذو اللحية الزرقاء” وكانت تلك هي الحُجَّة والمبرر بعينه. أعشقُ “الجميلة النائمة” التي كانت تتظاهر بالنوم وحسب. أعشقُ “بياض الثلج” (سنو وايت) التي رأت في الأقزام مجرد حفنةٍ من مرضى العُصاب. من جلس على مقعدي؟ من أكل من طبقي؟ وأعشقُ القزم الذي لم يكن يحملُ كل ذلك الحب لـ “بياض الثلج”، حين لم تكن قد أتت بعد كنا سبعة والآن؟ انظر إلينا في حالنا الآن. والعملاق الذي يشتعلُ غضباً لأن الجميع يطلق على حذائه اسم “جزمة”. أعشقُ من لا يتلاءم مع الحكاية الخرافية. ولكن فوق كل شيء أعشقُ إيكاروس الذي أدرك أن الشمع سيسيل ومع ذلك انطلق محلقًا صوب الشمس.
-٤-
- بحر الجرأة
كثيرًا ما كنتُ أحدّقُ في البلاط
تلك الأشكالُ السوداء في ثوبِ الأبيض
التي يمكن أن تتحوَّل إلى شيءٍ آخر
هكذا قيل لي.
تمامًا كما هو حالُ الغيومِ القادرة على التشكُّل
لكنني، مهما أطلتُ التحديق، ظلَّ البلاطُ بلاطًا،
وعندما أطبقتُ جفوني تحوَّل الأسود والأبيض في أقصى طموحهما إلى رماديٍّ
كان ينسجمُ مع الحياة التي عشتُها حينذاك
في ذلك البيت بجوار امرأةٍ حانية
ورجلٍ حنون، تمنَّيا لي كلَّ خيرٍ
“العائلة البديلة” هي الكلمةُ التي وُضعت
لوصف المكان الذي حططتُ فيه رحالي.
لا أجدها كلمةً آسرة
فالعائلة إما أن تكون عائلة أو لا تكون.
أنتَ جزءٌ منها أو لستَ.
يجبُ ألا نتعلَّم كلمةَ “جبل” إلا بعد أن نكون
قد بلغنا قمَّة جبلٍ وتسلقناه
ولا يجبُ أن نعيَ كلمةَ “فيل”
قبل أن تكون أيدينا قد لامستْ فيلًا
ونظرتْ أعيننا في عينيْه.
أما كلمةُ “الغرام” فهي ليست إلا وصفًا
لنتيجةٍ تترتَّبُ على شيءٍ ما.
نعم نحنُ مغرمان
نحنُ ثملان من فرط السعادة
ولكن هذا ليس بالأمر الجلل.
أنا كتبتُ عن البحر الذي استلقيتُ على شاطئه
وأنتَ كتبتَ عن البحر الذي قضيتَ نصفَ عمرك على متنهِ.
قد لا تكون هذه قصيدةً بارعةً
لكن لو كنتَ أنتَ بحراً
لكنتَ أنتَ البحر الذي أمتلكُ الجرأة على الإبحار فيه٠

تيتسكه يانسن Tjitske Jansen شاعرة وكاتبة هولندية وُلدت في بارنيفيلد في 3 مارس 1971. تشتهر يانسن بنصوصها التي تجمع بين الشعر والنثر والمسرح وبأسلوبها الواضح والبسيط. وغالباً ما تتخذ شخصية المتحدث فيها طابعاً طفولياً أو يتعلق بعوالم القصص الخيالية. بدأت مسيرتها الأدبية على خشبة المسرح حيث فازت بالجائزتين العامة وجائزة أمستردام عام 2001. في عام 2003 أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى والناجحة جداً وعنوانها (كان يجب أن تبدأ الثلوج بالتساقط)، ومجموعة أخرى (منهاج دراسي) (2007) وهي سيرة ذاتية شخصية تتضمن ملاحظات شبيهة بالحكايات الخرافية حيث تتناول موضوع نشأتها في دور رعاية متعددة. كما حصلت على جائزة آنا باينس. بالإضافة إلى عملها كشاعرة وكاتبة عملت يانسن كمعلمة دراما وممثلة وكاتبة مسرحية.