صابر الجنزوري
يقول فرانك أوكونور، الناقد والشاعر الأيرلندي: القصة القصيرة تعبر عن صوت الفرد وتختلف عن الرواية التي تعبر عن صوت المجتمع.
ويعني بذلك أن الفن الروائي يهتم بقطاع كامل من المجتمع، مما يجعل من الضروري أن يلازم الروائي الإحساس العادي العام بالمجتمع، في حين أن الإحساس الذي يلازم كاتب القصة القصيرة هو جلوسه وحيدًا، يناجي أشجانه الخاصة ويعبر عن موقفه من المجتمع في قالب قصصي.
وبناءً على ذلك، لم يكن ذلك الصوت سوى صوتًا متفردًا… (Lonely voice) أتى من الماضي ولكنه صوت يعبر عن الحاضر ويحلم بالمستقبل.
في مجموعة “صوت من الماضي” نستطيع أن نطبق ما قاله فرانك أوكونور حرفيًّا على تلك المجموعة القصصية ذات الطابع الإنساني والاجتماعي والرمزي، حيث نجد قصص ونصوص المجموعة تعبر عن صوت وفكر ورؤية الكاتب للحياة من خلال مواقف ومشاهد إنسانية واجتماعية وتأملات فكرية له ولأبطال قصصه ومعايشاته ورحلته الصحفية، خاصة إذا عرفنا من خلال السيرة الذاتية عن بدايات الأستاذ حسام أبو العلا الصحفية والتي كانت في مدرسة الأستاذ عبد الوهاب مطاوع الذي تنبأ له بأنه سوف يكون قاصًّا وأديبًا. لذلك، نجد في هذه المجموعة أريجًا من عطر الأستاذ عبد الوهاب مطاوع في قصص الأستاذ حسام من تناوله للنواحي الإنسانية بلغة عذبة مؤثرة رائعة.
عناصر القصة بالمجموعة
تأتي المجموعة القصصية في عشرين قصة ونصًّا، حيث نجد مزيجًا من القصص القصيرة والنصوص الأدبية التي تتناول قضايا إنسانية واجتماعية عميقة. يقدم الأستاذ حسام من خلالها قدرته على تصوير المشاعر المعقدة والعلاقات المتشابكة، مع التركيز على الأبعاد النفسية للشخصيات وردود أفعال أبطاله من خلال مواضيع مشتركة مثل: الحب، الفقد، الخيانة، الألم، التضحية، والخيبات التي يواجهها الإنسان في حياته.
السرد والحبكة واللغة
السرد والحبكة
من أهم ما يلفت انتباه المتلقي بشكل عام هي طريقة السرد المميزة، التي نشعر بها أثناء قراءة النصوص المختلفة، فنشعر كأننا نستمع إلى لحن ذي نغمة واحدة وهو صوت الكاتب كما لو كان عازفًا أو ملحنًا له طريقته وأداؤه، فيقدم بصوت وضمير المتكلم في أغلب القصص وبصوت الراوي الذي يعرف كل شيء في نصوص قليلة. ومع ذلك، لم يشعر القارئ باختلاف، لأن الصوت متفرد واللحن واحد، فيبدأ من نقطة انطلاق، يتصاعد الحدث كما في “صوت الماضي” و”طعم القهوة” و”بسمة أمي” وحتى النص الأخير (“العندليب”) الذي كان مختلفًا في موضوعه المتوافق مع اللحن الإنساني الذي ربط بين كل نصوص المجموعة بخيط وهمي من حرير؛ ليصل بعد ذلك لنهاية قوية مباغتة أو مدهشة أو طبيعية، لتكتمل حبكة النص، الذي تعمَّد كاتبه استخدام عنصرين مهمين من عناصر القصة القصيرة الحديثة وهما: التكثيف والاختزال. فمتوسط حجم القصص لا يزيد عن 4 صفحات، فلا يشعر القارئ بملل من خلال تكثيف العبارات، واستخدام الجمل القصيرة حتى في الحوار، وكذلك اختزال مشاهد كثيرة يدمجها في مشهد واحد مثل المشهد الأخير في “صوت من الماضي” أو المشهد الأخير في “طعم القهوة”.
اللغة
أما الحديث عن اللغة، فهي لغة أديب سلسة بسيطة ومشحونة بالعاطفة، ولنا أن نستحضر اللغة العذبة الراقية التي تتدفق بسهولة لقلب ومشاعر القارئ لبساطتها ورقيها، واستخدام الوصف الدقيق للأماكن والمشاعر، خاصة ما يتعلق بعمق تلك المشاعر داخل عقل ونفس الشخصية وتصوير لحظات الألم والحزن والفرح والسعادة والضيق والشقاء والوفاء والخيانة.
الشخصيات
استطاع الأستاذ حسام رسم شخصياته بعناية، حيث نجد شخصيات قصصه قد اختارها من الواقع، من الفئات المتوسطة أو الفقيرة، صاحبة تجارب إنسانية أو مشاكل اجتماعية وتعاني من وجود صراعات داخلية عميقة.
1– شخصية رمزي في قصة “صوت من الماضي” تعاني من الزهايمر، لكن قلبه يتذكر حبه القديم، مما يبرز الصراع بين العقل والقلب.
2– شخصية الأم في قصة “طعم القهوة” تمثل الصبر والتضحية في زواج قاسٍ، وتظهر شخصيتها المركبة عندما تفكر في الانفصال والبحث عن السعادة، ثم تتراجع.
3– شخصية الكاتب في قصة “بسمة أمي” والتي نشعر بل ونتخيل أن الأستاذ حسام نفسه الصحفي هو صاحب هذه التجربة عندما شاهد الطفل في داخل المترو، تظهر تحولًا من مجرد مراقب للأحداث إلى فاعل مؤثر في حياة الآخرين، حيث يتجاوز شغفه الأدبي ليقدم المساعدة أو يقوم بعمل تحقيق صحفي.
4– شخصية الرجل المعمم في النص الذي حمل نفس العنوان، وهي شخصية رسمها الأستاذ حسام كأنه يرسم لوحة سيريالية لرجل معمم داخل زحام أتوبيس، تركيزه على النساء بينما هناك لص يسرق محفظته. شخصية ذات بعد رمزي ودلالة وإسقاط على طبيعة رجل الدين الذي ينغمس في شهوته ولا يلتفت لما يدور حوله في المجتمع الذي يحيط به.
5– شخصيات أخرى مؤثرة مثل شخصية حامد في قصة “الباب الموارب” وهو الصديق الوفي الذي يساعد صديقه رغم أنه لم يكن بطلًا للنص، وشخصية بطل النص في قصة “سر المرحوم” الذي حرص على إخفاء علاقاته وزيجاته النسائية طوال عمره ولم تظهر إلا بعد وفاته، وشخصية “العندليب”، ذلك الرجل المتقاعد الكوميدي الذي يعتقد بحلاوة صوته رغم رأي زوجته وأسرته والمجتمع حوله أن صوته رديء.
الزمان والمكان
امتزج الزمان بالمكان ليكونا عنصرًا واحدًا “الزمكان” لا عنصرين بقصص المجموعة، فنجد دائمًا صوتًا من الماضي حاضرًا، في البيت أو المستشفى أو الشركة حسب اختيار الكاتب لنصوصه، فالزمن كان الماضي في العنوان لكنه في الأحداث حاضرًا ومستقبلًا.
رؤية تحليلية لقصص المجموعة
1
“صوت من الماضي”
في هذا النص الممتع حقًّا، نشعر أن هناك صوتًا منفردًا جمع بين الرومانسية والإنسانية في لحظة زمنية ومكانية فجمعت الزمكان في مشهد مؤثر جدًّا ليكون ذلك النص تجسيدًا للقصة القصيرة بعناصرها من حيث الموضوع والفكرة التي تم بناء القصة عليها. فنجد أن أهمية هذه القصة إذا انتبهنا إليها وتوقفنا عندها تأتي من لحظة النهاية والمفارقة التي لخصت الفكرة والموضوع في خيال كاتبها، حيث جمع الأستاذ حسام أبو العلا الماضي والحاضر والمستقبل في مشهد واحد داخل المستشفى، عندما تعود الحبيبة لمريض الزهايمر (رمزي) بعد فراق لتبحث عنه وتتذكره، فتذهب إليه، فيجد الطبيب الفرحة في عينيه، لكن رمزي ينكر أنه يتذكرها، فيسأله الطبيب لماذا؟ يجيبه: “لو كان فعل فلن تأتي مرة أخرى”، فيقول الطبيب: “مهما مرض العقل، فالقلب لا يمرض”.
2
“طعم القهوة”
قصة قصيرة إنسانية، تشعر فيها برائحة ومذاق قصص الراحل عبد الوهاب مطاوع مثل قصة “صوت من الماضي”. الأم التي أنجبت بعد زمن طويل ورفضت الشعوذة والدجل وذاقت الأمرين مع الزوج، والابن الذي يعمل في ألمانيا، والبنت التي تزوجت وانشغلت في حياتها. يظهر الحبيب الذي يعوضها عن قسوة الزوج. معرفة الابن بالقصة من خلال الهاتف. يموت الزوج، وتبقى الأم وحيدة. يضعنا الكاتب أمام نهاية عجيبة، لا يعرف فيها القارئ إذا كانت البطلة تحلم بلقاء حبيبها في نفس مكان لقائهما على النيل واحتسائها قهوتها، والنادل يخبرها أن أحمد حبيبها كان هنا في نفس المكان. ويتركنا الكاتب في حيرة مع آخر جملة: “وعدت أستكمل الحلم”.
3
“بسمة أمي”
قصة قصيرة مكتملة، إنسانية، نرى فيها صوت الكاتب وشخصيته وإنسانيته، حتى أكاد أتخيله هو الأستاذ حسام، من خلال موقف إنساني لطفل يفترش أرضية المترو بأكياس سوداء يغط في نوم عميق من التعب. يظل معه الكاتب بطل النص بدافع إنساني وبحس الأديب الذي يبحث عن قصة والصحفي الذي يبحث عن تحقيق، ويلازم الطفل وقد تركته محطته، يذهب معه لمكان إقامته، غرفة في منزل يكاد يتصدع، يتأثر بشقيق الطفل وشقيقته اللذين ينتظرانه، تهزه جملة الطفل الصغير: “جبت الأكل؟!”. يتعاطف الكاتب ماذا يفعل لهم بعد أن عرف أن أمهم ماتت، وهرب أبوهم، وهذا الطفل ابن عشر سنوات يعول نفسه وإخوته في تلك الحجرة المظلمة. يعود لبيته، يأخذ قرط أمه التي ماتت، يبيعه، يعود للأطفال بالمال والطعام. كبرياء الطفل المحتاج وعزة نفسه تجعله يرفض المساعدة، لكنه يقبل عندما يخبره الكاتب أن ذلك هدية من أمه ويقول له: “قبِّل لي قدميها”. يعود الكاتب ويشعر أنه رأى أمه تبتسم كما شعر أنها تقول له: “اجبر بخاطرهم”. ينتهي النص الإنساني في لحظة إنسانية تجعل دمعة قد تسرق القارئ غفلة ويحمد الله على نعمه الكثيرة.
4
“زوج زوجتي”
من عنوان القصة المثير “زوج زوجتي”، تروي زوجة بضمير المتكلم، ليشعر الكاتب قارئه بعمق الصدق الإنساني في الحدث الذي ترويه. القصة تعرض قضية إنسانية صعبة، الزوج الذي يكون بمثابة المفقود، فيُعلن قانونًا موته بعد أربع سنوات. تتزوج الزوجة، تزوجت شقيقه، أنجبت منه، أصبح لديها ابن من زوجها وابن من شقيق زوجها. يعود الزوج الأول، تحدث الأزمة، ينهي الكاتب قصته برؤية الزوج الأول الطفل الصغير، يسأل: “من هو؟” تخبره الزوجة: “ابني”، ويخبره شقيقه: “ابني أيضًا”، ويترك الكاتب بذكاء نهاية مفتوحة وقضية للمناقشة.
5
“الغرفة 177”
قصة إنسانية من رائحة عبد الوهاب مطاوع. قسوة الأب على الابن، تموت الأم، تحتضن الابن جارتهم التي اختار لها اسم أم وفاء في رمزية ودلالة إنسانية تستحقها. تربيه الأم الثانية، يبتعد الأب، يتزوج، لا يسأل عن ابنه. يكبر الابن، يصبح مهندسًا. فجأة تطلب منه أمه الثانية أم وفاء أن يذهب لأبيه في الحجرة 177 فهو يحتضر. يذهب بعد رفض، على باب حجرة المستشفى يسأله أخوه الذي لا يعرفه: “من أنت؟” يجيبه الابن: “أبلغ والدك أني جئت إلى هنا فلو سامحته فكيف يهرب من تأنيب ضميره”. تنتهي القصة ليتركنا الكاتب نتساءل: أيهما أقسى على النفس قسوة الأب أم قسوة الأبناء؟ ما يؤخذ على النص
عدم تقديم المبرر الكافي والسبب الذي كان بسببه كان الأب قاسيًا؟
6
“الباب الموارب”
نص من النصوص الإنسانية:
“لا مكان للبؤساء في بساتين السعادة”. نص يحتوي على فناء أب للحفاظ على أسرته بعد وفاة زوجته وفصله من العمل، ووفاء صديق اسمه حامد لهذا الأب تيسير عندما ساعده وألحقه بالعمل معه، ثم وفاة تيسير وقيام ابنته ميرفت بدورها في تعليم أشقائها، بعد إلحاق حامد صديق الأب لها بالعمل. يموت حامد، ويحل صادق مكانه، يحب ميرفت، ترفض الأم الأرستقراطية زواجها من ابنها، يمرض، يُنقل للمستشفى، تذهب ميرفت لرؤيته من خلال باب حجرته الموارب، يغشى عليها، تسأل الأم الممرضة عنها، تجيبها، تشعر بصدقها وحبها لابنها، تصطحبها لرؤيته، وتنتهي القصة ليكمل القارئ نهايتها المفتوحة.
7
“التركة”
نص ترويه بطلته بصيغة المشكلة. ربما يكون النص قويا كنص أدبي وليس كقصة قصيرة. الزوجة التي تتحدى أهلها وتتزوج رجلًا مستهترًا، تعيش معه ضنك العيش تنجب 3 أبناء، تتغير أحواله للثراء، يبخل عليها، تكتشف حقيقته، يدير مواقع تعدد زوجات، تجارة أعشاب ممنوعة، تواجهه، تكتشف إصابتها بمرض مناعي، لا تعرف كيف تواجه الحياة، يطردها. فجأة تتلقى مكالمة: “تعالي استلمي نصيبك من تركة باسل مع بقية زوجاته!”.
8
“نعمة”
نص أدبي، يرويه بطل الحكاية بعد وفاة زوجته، احتار في اختيار زوجة تكون أمًّا لأبنائه الثلاثة، عثر عليها، مطلقة لا تنجب. ظل القلق يراوده على أبنائه حتى تأكد من معاملتها كأم لأبنائه، أراد القدر أن تنجب ابنة، لم يتأكد أنها ستكون أمًّا للأربعة أبناء إلا عندما أعطت للابنة اسم “نعمة” وكانت أم أبنائه التي رحلت اسمها نعمة.
9
“القرار”
نص أدبي تحكيه بطلته على غرار “بريد الأهرام”، حيث يترك الزوج زوجته وأبناءه الأربعة، يتزوج امرأة ثرية عجوزة، تكافح الزوجة بطلة النص، تعمل ممرضة في مستشفى، تعمل بها صديقتها الطبيبة التي عينتها، تلتقي بشخصية عربية ثرية تمرضه، يتزوجها، يموت، تصبح ثرية، يكبر أبناؤها، أحدهم يصبح طبيبًا، تشتري المستشفى التي تعمل بها، تطلب وظائف، يتقدم زوجها الأول لوظيفة، بعد أن طردته زوجته وطلقته ويسوء به الحال، توافق على طلبه للوظيفة، التي تكون عامل خدمات في مكتب مدير المستشفى، مدير المستشفى، هي!.
10
“سر المرحوم”
قصة قصيرة برواية زوجة تشك في زوجها لمدة 25 سنة، ولم تستطع أن تمسك عليه دليلًا. بعد وفاته فجأة في عمله، بحثت في هاتفه المحمول، اكتشفت علاقاته المتعددة مع صديقاتها، حتى الطبيبة التي كانت تتعالج عندها. أرادت البوح لصديقتها المقربة والتي انقطعت علاقتها بها تقريبًا، ذهبت لزيارتها، وجدت قرآن العزاء وصورة زوجها معلقة على الحائط!.
11
“العنكبوت”
نص يقترب من الخاطرة والمقال الأدبي عن الشعور بالخذلان والغدر ترويه الحبيبة التي تنكَّر لها حبيبها وخذلها عند أول منعطف للحب، فشعرت بالهزيمة والغدر والخذلان.
12
“المريضة”
تعلُّق مريض بطبيبته، المريض مهندس، الطبيبة تشبه أمه. ترفض الطبيبة في البداية، عن طريق الممرضة يعرف عنها كل شيء ويعرف فشلها في علاقة بطبيب زميل لها، وأنها مطلقة ولها بنتان. تتصل به، يلتقي بها، يكتشف أنها أثناء اللقاء تأخذ صورًا لهما، يواجهها بما يعرف، يكتشف أنها تأخذ الصور لهما ليكون هو كبش فداء وتكيد به من خدعها، فيختم الكاتب قصته: “هذه الطبيبة المريضة المخادعة تحتاج للعلاج”.
ملاحظة: الجملة الافتتاحية في القصة بصوت راوٍ عليم، وبقية النص بصوت ضمير المتكلم بطل النص.
13
“فاتورة الحساب”
قصة تناقش مسألة البخل، رجل له رصيد في البنوك لكن لا يملك رصيدًا من المشاعر، بخيل. تقدم لخطبة فتاة النص، اختبرته كثيرًا، حتى جاء عيد ميلادها ليكون الاختبار الحقيقي، ينكشف عندما أتى بتورتة صغيرة، وفي نفس، ثم يتهرب من دفع فاتورة الحساب. تدفعها هي وتكتب على ورقة بيضاء: “أنت مريض بالبخل الذي لا شفاء منه”.
14
“مهمة سرية”
يتورط مصور صحفي مع سيدة أعمال بعد أن يعمل معها وتطالبه برصد وتصوير أشخاص معينة، حتى يتفاجأ بأنها مقبوض عليها لاتهامها في قتل أحد الأشخاص الذين صورهم لها، فيجد نفسه مقبوضًا عليه.
15
“النور المظلم”
حكاية ذات طابع إنساني ترويها بطلتها التي صبرت على عدم الإنجاب مع زوجها وتشبثت به وتحملت اتهامات أنها المسؤولة لمدة 17 عامًا، بعدها رُزقا بتوأم “نورا ونور”، بعدها يمرض الزوج، ثم يموت وينطفئ النور من البيت الذي كان يمثل الزوج رمزًا له.
16
“الجدران”
قصة قصيرة غامضة، تشبه الحلم. السرد بضمير المتكلم الذي يسرد الحدث. النص يشبه الحلم الصوفي يحتاج إلى تأويل. ما هي الجدران؟ ولماذا يأخذ البطل الإذن ليخبرها؟ ومن هم الذين يأذنون له؟! لكن في قوله إشارة إلى الكهان وتقديم القرابين ليرضوا عنه، وإشارة إلى الذين قبعوا ورضوا بوجودهم خلف تلك الجدران، وأنه الرجل الأول الذي لم يرض بذلك ويريد عبورها رغم طيف امرأته وولده الذي يأتي إليه خوفًا عليهم منهم… صورة حلم يحتاج للتأويل والتفسير ونص قوي.
17
“الرجل المعمم”
قصة قصيرة ذات نهاية مدهشة. حيث صوَّر الكاتب بضمير المتكلم أيضًا مثل بقية المجموعة تقريبًا، صوَّر مشهدًا داخل أتوبيس مزدحم، يضع لص مدية أو سكينًا في جانبه لأنه انتبه له عندما يسرق الرجل المعمم الذي يهتم بمتابعة النساء وكل تركيزه مع المرأة. يسرق اللص محفظة المعمم. عندما أتت محطته لينزل، في اللحظة التي فكر فيها أن يصيح: “حرامي” لينبه المعمم ويقول له: “اترك النساء محفظتك اتسرقت”، وجد من سبقه صائحًا: “حرامي…”. كان الذي صاح وأشار إليه هو السارق الذي قفز هاربًا من الأتوبيس… النص فيه رمزية كبيرة، رمزية الأتوبيس، الزحام، المعمم الذي يهتم بالنساء ولا يبالي بأي شيء ولا ينتبه لسارقه، الكاتب الذي لا يستطيع أن ينطق لأنه مهدد إذا تكلم؟
18
“2050”
نص يلقي الضوء على مشكلة أزمات البلد منها الإسكان والفقر من خلال الراوي العليم هذه المرة. يصور الكاتب الذي يحلم بسكن جديد، في حين أنه يقيم في حجرة بلا طلاء وسقفها يتساقط، فيقرأ في الجريدة التي تُلقى بحجرته، مناقشة أحوال البلاد 2050، في حين يقرأ عن انتحار رجل يُلقي نفسه في النيل. ثم يصور الكاتب حالة الرجل الذي يعيش فقرًا مُضجعًا إذ يصور حذاءه الممزق الذي يفكر في رتقه وهو لا يملك ثمن ذلك، فيلفه في ورق الصحيفة التي قرأ فيها مناقشة أحوال البلاد 2020، ويخرج غاضبًا.
19
“عوض الله”
قصة اجتماعية تحمل الطابع الإنساني تحكيها بطلة النص بضمير المتكلم، عن معاناتها مع الفقر ونشأتها في أسرة فقيرة في شقة داخل بيت تحت بير السلم. يرضى أبوها بزواجها من جار لهم ليس بإنسان، مدمن، يعاشر الساقطات، يشرب الخمر، يعتدي عليها جسديًّا ويضربها. لم تتحمل، هربت، عملت خادمة، كانت مطمعًا للكثير، حتى أتت فرصة لتعمل جليسة لشاب معاق يدرس بالجامعة، تحصل على راتب كبير مقابل عملها. أقامت دعوى خلع فطلقت من زوجها المدمن. تعاطف معها الشاب بعد سماع قصتها، قال لها جملة: “سيأتيك عوض الله”. جاء وقت رحيل الشاب، أعطاها مظروفًا، طلب منها ألا تفتحه إلا بعد رحيله، وجدت عوض الله، كما قال لها، فقد كتب لها الشاب الشقة باسمها ومنحها مبلغًا كبيرًا لتقيم مشروعًا، فعادت إلى أسرتها، كان أبوها قد مات، تزوجت شقيقتها، أمها فقدت البصر، عالجتها وأقامت مشروعًا جمعت فيه أزواج شقيقاتها وأطلقت على المشروع اسم “عوض الله”.
20
“العندليب”
النص الأخير في المجموعة وختام رائع لمجموعة قصصية رائعة من خلال نص حمل الطابع الكوميدي والفكاهي بين سطوره من خلال زوجة تروي قصة زوجها الذي خرج للتقاعد والمعاش، فبدأ يدندن بالأغاني القديمة، ثم بدأ يغني وصوته سيئ جدًّا. طالبت ابنته الأم ألا يغني لنجاة لأنها تحبها وتقول للأم: “صوت بابا وحش”. يصر على الغناء، يفاجئ زوجته، بأنه سيكون فرقة غناء مع أصحابه المتقاعدين يسميها “العندليب”. تصرخ الزوجة: (يا لهوي)، يتفتق ذهنها لتلقنه درسًا حتى يقلع ويتوقف، تعرض عليه أن يحيي فرحًا لعريس فقير، يذهب، تكون النتيجة تلقي علقة كسرت فيها ضلوعه. في المستشفى، لكنه لم يقتنع، تأتي الزوجة بتسجيلات له، يسمعها الأطباء والمرضى، يأخذون عليه تعهدًا ألا يغني، لكنه في النهاية، يفاجئهم بقوله: “معلش المرة الجاية هجد جمهور يقدر صوتي وأغني في الأوبرا”.
رؤية عامة
أخيرًا وليس آخرًا، فإن مجموعة “صوت من الماضي” لا نستطيع أن نأخذ عليها إلا تحفظات بسيطة إن شئنا ذلك. من بين تلك التحفظات أن قليلًا جدًّا من تلك النصوص افتقد لحبكة القصة القصيرة المتكاملة العناصر كما في نصي “العنكبوت” و”الجدران”، مع نجاحها كنصوص أدبية، وبعض النصوص الإنسانية القليلة ظهرت كمشكلة اجتماعية صيغت بأسلوب صحفي كما في نصي “التركة”؛ “القرار”.
مجموعة “صوت من الماضي” تجسد صراع الإنسان مع الزمن والحياة من خلال علاقات إنسانية واجتماعية ومشاعر متشابكة ومتداخلة ومتناقضة داخل النفس البشرية، فتجمع بين الواقعية الاجتماعية والرومانسية ذات البعد الإنساني فتترك بذلك أثرًا في وجدان المتلقي ليتأمل الشخوص والمعاني وماذا يفعل الزمن والحياة بالإنسان.
تحية تقدير للأديب والكاتب الصحفي الوطني المحب والعاشق لوطنه الأستاذ حسام أبو العلا ومبارك له هذه المجموعة الرائعة التي تعد إضافة قوية في مسيرته الأدبية وكل التمنيات الطيبة بمزيد من التألق والنجاح والإبداع.

صابر الجنزوري