صالح مهدي محمد
اللوحة: الفنان السوري نافع حقي
لم يعد الشعر في زمننا هذا كما كان في البدايات، حين كانت الكلمة تحمل معناها في وضوحها، وتذهب إلى القلب من طريقٍ مستقيم. لقد تغيّرت اللغة، وتبدّلت طرائق القول، واتسعت المسافة بين الشاعر والمتلقي، حتى صار الغموض سمةً تُلازِم النصوص الشعرية الحديثة، لا بوصفها عيبًا، بل كخيارٍ جمالي وفكري يعبّر عن تحوّلاتٍ أعمق في الوعي والرؤية.
لغة الشعر الحاضر لم تعد تكتفي بنقل المعنى، بل باتت تخلق عالماً لغوياً قائماً بذاته، عالمًا تتقاطع فيه الرموز، وتتمازج الصور، وتتداخل الدلالات في لعبةٍ معقّدة بين الحضور والغياب. فالشاعر لم يعد يريد أن يُفهَم تماماً، بل أن يُستشعَر، أن يُؤوَّل، أن يُكتشَف في طبقاتٍ من الإيحاء لا تُستنفد بالقراءة الأولى. إن الغموض، بهذا المعنى، ليس ستاراً يحجب المعنى، بل فضاء يفتح أفقاً للتأمل، ومساحة حرة لتعدد الفهم.
لقد وُلد هذا الغموض من رحم التحوّل في وظيفة اللغة نفسها؛ فالشعر الحديث لم يعد يتحدث عن الأشياء، بل يتحدث عبرها، يحوّل اللغة من أداة تواصل إلى كيانٍ وجوديٍّ ينبض بإيقاعٍ خاص. هنا، تتكسّر القواعد التقليدية للجملة، ويتخلّق المعنى من التنافر والاختزال والانزياح. الغموض، في هذا السياق، ليس اضطراباً في التعبير، بل هو شكل من أشكال الدقة، دقة تومئ أكثر مما تصرّح، وتقول بالصمت ما لا يقوله الكلام.
إنّ القارئ القديم كان يبحث عن القصيدة ليجد فيها رسالة أو شعوراً محدداً، بينما القارئ الحديث يواجه القصيدة كما يواجه لوحةً تجريدية، لا يسألها “ماذا تقول؟” بل “كيف تُنصت؟” و”إلى أين تأخذني؟” لقد أصبحت اللغة الشعرية كائناً مفتوحاً، يتجاوز النحو والمعجم إلى ما وراء المعنى. هذا التحوّل جعل من الغموض ضرورةً جمالية، توازي تعقيد الحياة المعاصرة نفسها، حيث لم يعد العالم بسيطاً، ولا الإنسان شفافاً كما كان.
إنّ الغموض في الشعر الحاضر ليس تعميةً بقدر ما هو وعيٌ بالعالم؛ فالشاعر يعيش في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات والحقائق، ولا يجد في اللغة العادية ما يعبّر عن دهشته وارتباكه وتمرّده. لذلك يلجأ إلى لغةٍ مغايرة، تومئ بدل أن تصرّح، وتكسر منطق التواصل المألوف لتؤسس منطقاً شعرياً جديداً. إنّ الغموض هنا موقف فلسفي قبل أن يكون تقنية أسلوبية، إنه احتجاج على اليقين، ورغبة في إعادة اكتشاف الإنسان والعالم من داخل اللغة لا من خارجها.
وهكذا يتقاطع المفهومان — لغة الشعر الحاضر وظاهرة الغموض — في نقطةٍ واحدة، هي البحث عن المعنى في زمن ضياعه، وعن الجمال في لحظة انكساره. فاللغة الجديدة لا تريد أن تُفسَّر، بل أن تُعاش؛ والغموض لا يسكن النص ليعقّده، بل ليحميه من البساطة المضلّلة، ويمنحه قدرة البقاء في الذهن بعد القراءة. في نهاية الأمر، يظل الشعر الحديث ابناً لهذا الغموض الجميل، الذي يعلّمنا أن المعنى ليس ما نعرفه، بل ما نظلّ نبحث عنه في الكلمة، في الصمت، وفي تلك المسافة المضيئة بينهما.