صالح مهدي محمد
اللوحة: الفنان الفرنسي أوجاست رينوار
يتسلّل العازف على أصابع الظلال، كأنه يحاول أن يلمس الهواء دون أن يوقظ المدينة. كل خطوةٍ منه تصنع نغمةً صغيرةً، خافتةً، تتسلّل بين الجدران، وتتقاطع مع صدى خطواتٍ لا نعرف من أين تأتي. يده على الجيتار، لكن الموسيقى تولد أولًا من حركة جسده، من تنفّسه، من صمت الشارع الطويل، كأن الليل نفسه ينسج لحنًا من صمت المدينة.
على زاوية ضوءٍ باهت، جلست فتاةٌ تحمل دفترًا صغيرًا، تكتب فيه حروفًا لا يفهمها إلا قلبها. كل كلمةٍ فيه كانت شراعًا يطفو على بحر الليل، وكل خطٍّ كان جسرًا يربط بين صمتها وبين الموسيقى التي ينبض بها العازف. لم تكن بحاجةٍ إلى أن ينظر إليها؛ كان حضورها محسوسًا في الهواء، كأن المدينة نفسها تنبض بها، وتتنفّس معها نفس الإيقاع الخفي.
اقترب العازف أكثر، فخطواته أصبحت نغماتٍ قصيرةً تتردّد بين الجدران المهجورة. لم يتبادلا التحية بلغةٍ مختلفة: هو إيقاع الأرصفة، وهي حروف الفراغ. في كل ليلةٍ، كانت الموسيقى والكتابة تتشابكان في رقصةٍ صامتة، سيمفونيةٍ بلا جمهور، تولد في أيادي الليل، وتختفي بين قطرات الضوء والمطر والغبار، كأنها لحظةٌ مؤقتة بين حلمين لا يلتقيان.
كل لقاءٍ بينهما يمرّ بكلماتٍ قليلة، لكن الهمسات التي تُرسلها تصنع حضورهما معًا في الفراغ، كأن المدينة نفسها تُصغي إلى صمتهما. والدفتر صار مفتاحًا، والموسيقى مرآةً، والشارع مسرحًا من الظلال والصمت، مكانًا يُمكن فيه أن يولد الفنّ من الفراغ، وأن يتحوّل الغياب إلى حضور.
وفي ليلةٍ مطريةٍ، غابت الفتاة فجأة، وتركَت الدفتر على الرصيف مفتوحًا على صفحةٍ بيضاء. لم يشعر العازف بالحزن؛ بل شعر أن المدينة نفسها حملت السرّ، وأن كل صوتٍ ينساب الآن بين قطرات المطر هو رسالةٌ لها، رسالةٌ تقول: “كل غيابٍ يحمل وعدًا بلقاءٍ جديد.”
أدرك لوعة الغياب، لكنه فهم أن الفنّ أعمق من الأسماء، وأن الصمت أصدق من الكلام، وأن المدينة، بكل زواياها المجهولة، أصبحت بيتًا لكل من يأتون بلا موعد، ليجدوا أنفسهم في أيادي الليل الصافية، حيث الموسيقى تلتقي بالكلمات، والظلال تتحوّل إلى قصص، والفراغ يصبح حضورًا.
ومع كل ليلةٍ جديدة، يواصل العازف المشي على أصابع الظلال، ويترك موسيقاه تتسرّب بين الزوايا، تاركًا لكل من يمرّ بالشارع أن يلتقط لحظةً من الصمت، قصيدةً قصيرةً تُكتب بلا حروف، لحظةً تتوه بين المطر والضوء، وتُعلّم أن الغياب يمكن أن يكون أكثر حضورًا من أي لقاء.