حين أستيقظ الحلم

حين أستيقظ الحلم

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان السوري حمود شنتوت

في البدء، لم يكن هناك سوى ومضةٍ… كأنّ نجمةً سقطت في قلبٍ لم يعرف بعدُ شكلَ النهار.

التقيا — أو هكذا خُيِّل لهما — في نقطةٍ معلَّقةٍ بين الزمنين.

عينٌ تلمحُ أخرى، فينفتح في العالم صدعٌ من دفءٍ وارتباك، ويُولَد بينهما معنى لا يحتاج إلى كلمات.

كانت تُدعى أحلام، وكان هو يُسمّى صفاء، كأنّ الأسماء لم تكن سوى استعارةٍ للغيب نفسه.

كان يقول: «أنتِ لستِ حلمي، أنتِ استيقاظي من كلّ ما ظننته يقظةً».

فتضحك، ويختلط في صوتها المطرُ بالحنين.

ثلاثُ سنواتٍ ظلّا يسافران في المسافةِ التي لا تُقاس بالخطى، بل بالنبض.

كانت رسائلُه دافئةً كأنّها تُكتب من فمٍ إلى قلب، وكانت تردّ عليه بأنفاسٍ من صبرٍ متوهّج، حتى صارت الصبرَ نفسه.

ثم انكسر الإيقاع.

تراجعت الرسائلُ كمدٍّ ينسحب عن رملٍ خائف، وغاب صوته خلف جدارٍ من تأويلٍ لا يُفهم.

لم يعتذر، لكنه صمت.

ولم تسأله، لأنها خافت أن تسمع النهاية في عينيه.

حين عاد، لم يأتِ.

كان قريبًا إلى الحدّ الذي يوجع البُعد.

رأته في العيون التي تحدّثت عنه، ولم ترَه في العالم.

ومنذ تلك اللحظة، بدأ وجهُها يبهت كما لو أن الحلمَ يفقد لونه.

تنامُ نصفَ نومٍ، وتراه في النصف الآخر من الوعي، تقول له في الخفاء: «صفاء… هل كنتَ أنتَ الحلمَ أم كنتَ سببَ يقظتي؟»

وفي ليلةٍ خريفيةٍ مشبعةٍ بالبرد والانتظار، وصلها ظرفٌ صغير: ورقةٌ بيضاء في وسطها نقطةُ حبرٍ تتنفّس ببطء.

ظنّتها صدفةً، ثم رأت فيها شيئًا من نسيانه المتعمّد.

أمسكتها طويلاً، حتى خُيِّل إليها أن الحبرَ يختلج كقلبٍ فقد صاحبه.

في تلك اللحظة، انشطر السؤال: هل وُجد أصلًا؟ أم أنّها كانت تكتبه كلَّ ليلةٍ في أحلامها ثم تُصدّق أنّه حقيقي؟

لم تجد له أثرًا: لا صورة، لا رقم، لا تاريخ؛ كأنّ العالمَ تواطأ مع الغياب. حتى الصوت الذي كان يأتيها من الهاتف اختفى من السجلات، كأنّ الآلةَ نسيت اللغة.

خرجت إلى البحر. جلست أمام الموج وسألت الزرقة: «إن لم يكن موجودًا، فمَن أنا إذن؟ وإن كان موجودًا، فأين ذهبتُ أنا بعده؟»

ضحكت، والضحكةُ تشبه بكاءً مؤجّلًا، ثم همست: «لقد سمّاني أحلام، ولم يدرِ أنني كنتُ الحلمَ الذي أيقظه من نفسه».

في مكانٍ آخر، كان صفاء يكتب. مدينةٌ غائمة، وضوءٌ يتسكّع على زجاج نافذةٍ صغيرة. قطرةُ ماءٍ تسقطُ بانتظامٍ كنبضٍ تردد على طاولةٍ باردة.

يكتب اسمها على الصفحة الأخيرة من دفترٍ أسود، يمحوه، ثم يكتبه من جديد. وحين ينتهي الحبر، ينفخ فيه أنفاسه ليُعيده إلى الحياة.

هو لا يهرب منها، بل من ارتباك الحلم حين يصير واقعيًّا.

منذ رأى وجهها ذات مساءٍ على زجاج متجرٍ مغلق، توقّف العالم عند تلك اللحظة. كانت تبتسم من خلف ضوء خافت يكاد يُرى، يمدّ يده، فيمرّ الهواءُ خلالها كدفءٍ يتيم. منذ ذلك اليوم، لم يعرف هل هو الذي يعيش، أم الحلمُ الذي يكتبه هو الباقي.

تحدّثه في الليل من داخله؛ صوتُها يجيء من ذاكرته لا من الهاتف: «صفاء… أنت اسمي حين أنسى نفسي».

فيردّ عليها بخوفٍ رقيقٍ من أن يوقظَها فيختفي هو.

بدأ يكتب رسائل بخطٍّ لا يفهمه جيدًا. وعندما عاد إلى وطنه، عاد نصفَ رجلٍ ونصفَ ذكرى.

في الليلة التي كتبتْ له فيها آخرَ رسالة، كان يحدّق في وجهه في المرآة — وجهٌ يتغيّر ببطءٍ إلى ملامحها.

أراد أن يكتب لها، فاختفت من العالم. لا رقم، لا شاهد، لا شيء يُذكر. كأنّها لم تُخلق إلا ليحلمَ بها.

وحين مات بعد عامٍ من وحدته، وجدوا دفتره الأسود فارغًا إلا من سطرٍ مرتجف: «أحلام ليست امرأةً… أحلامُ هي الحلمُ الذي استيقظتُ منه».

لكن المدينة لم تنتهِ عند موته. كلُّ فجرٍ تمرُّ ريحٌ خفيفةٌ في زقاقٍ ضيّقٍ، تقول بنغمةٍ لا يسمعها إلا الغائبون: «صفاء…».

وفي غرفةٍ عليا يُفتح شباكٌ ببطء، ويبتسم وجهٌ نصفُه ضوءٌ ونصفُه غياب. لا يتذكّر منذ متى يسكن هنا، ولا لمن كانت الصورُ على الجدار، لكنه يعرف أنّ امرأةً كانت تضحك في أحلامه، وتترك خلفها عبيرًا من ياسمينٍ ودفترًا صغيرًا كُتب عليه: «لكَ، إن عاد الحلم».

وفي مكانٍ بلا اسم، تمشي هي — أحلام — على طريقٍ من غبارٍ مضيءٍ لا ينتهي. تسمع نداءه يجيء من الضباب: «أحلام…». فتبتسم وتردّ: «صفاء…».

وحين تلمسُ الزجاجَ الشفّاف في آخر الطريق، ينبثق وجهُه من الضوء، يمدّ يده، فتمتدّ يدُها، وينكسر الحاجزُ بين الحلم واليقظة.

لم يتكلّما؛ كانت اللغةُ زائدةً على المعنى. العينان وحدهما قالتا كلَّ ما سكتت عنه السنوات: عن الرسائل التي تاهت، والأحلام التي أُجهضت في الصحو،عن الخوف من أن يُفسد الواقعُ جمالَ الوهم، وعن حبٍّ صدّق نفسه أكثر من الحقيقة.

ابتسمت وقالت بعينين من ضوء: «لقد كنتَ حلمي الجميل، وها أنا أوقظُك برفق».

فأجابها: «وكنتِ الحلمَ الذي كتبني».

انفتح الزجاج كصفحةٍ بيضاء، ودخلا معًا في النصّ الذي لا ينتهي. ومنذ ذلك اليوم، كلّ من مرّ قرب البحر سمع خفقةً تشبه نبضَ عاشقٍ من زمنٍ آخر،وكلّ من نامَ رأى ظلَّ امرأةٍ ورجلٍ يمشيان في ضوءٍ لا يعرف الفجرَ ولا الغروب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.