زر المعرفة

زر المعرفة

اللوحة: الفنان البولندي باول كوزنسكي

في واقع تتكدّس فيه الشعارات وتضمحلّ فيه الحلول، تبقى المعرفة الحقيقية هي الزرّ الصغير القادر على فتح أبواب النجاة، لكنها معرفة مرفوضة، أو غريبة، أو ضائعة وسط صراخ الجموع على معرفة قليلة ومتوهمة.

***

بعض الأفراد مسجونون في غرفة مغلقة بلا منافذ، ومن ثقوب عديدة يتسرّب ماء وبخار، يتجمّع الماء ويتصاعد، ينتشر البخار ويتراجع الأكسجين، ويلوح خطر الغرق والاختناق، وساعة الزمن تدق بسرعة وتُعلن اقتراب النهاية. وأمامهم أبواب ونوافذ حديدية موصدة، يبرز من تلك الأبواب والنوافذ بروزات أشبه بالمقابض أو العجلات التي يمكن تحريكها أو إدارتها، وينتشر كل فرد أمام باب أو نافذة ويُعمل قوته في إدارة العجلات وثني المقابض، عسى أن يُفتح باب أو نافذة. وتُستنزف قواهم في هذا المجهود البدني، بينما يرتفع الماء وينتشر البخار ويتكثّف، وتغمرهم مشاعر البلل والاختناق. يمرّ الوقت ولا يخطر ببالهم سوى التغلب على المقابض والعجلات، فهما الأمل الوحيد في الخروج والنجاة.

تخيّل أن في الغرفة عشرة أشخاص… مئة… مليون… ملايين!

هل سيُحدث العدد فرقًا، ما دام الجميع منشغلًا بالمقابض والعجلات نفسها؟

لو كان في هؤلاء الملايين شخصٌ واحد يمتلك معلومة أنّ في كل باب ونافذة زرًّا صغيرًا جدًّا، لا يكاد يُرى، لو ضغط عليه بهدوء لفتح أحد الأبواب أو النوافذ!

ألا نعترف وندرك أن هذا الواحد الذي يمتلك المعرفة قد أنقذ الملايين وتفوّق عليهم، ولا يمكن الاستغناء عنه؟

المشكلة في الشعب المصري وربما بقية الشعوب العربية أنهم يشتغلون على المقابض والعجلات كأمل في حلٍّ سحري لكل مشاكلهم المزمنة والمؤلمة واليائسة.

***

لقد أصبحت المقابض والعجلات، في وعينا الجمعي، رموزًا للدين والسياسة، أدوات يتوهّم الناس أنها وحدها مفاتيح الخلاص.

لا حلّ عند ملايين المصريين والعرب إلا عصا السياسة والدين السحرية: تغيير سياسي ثم تفتح أبواب الجنة… “يسقط يسقط…”، ولا توجد خطة لما بعد السقوط.

وسائل دينية مثالية وسطحية، ثم تهطل السماء بالخير مدرارًا وترتفع رايات الأستاذية.

والماء يرتفع، والبخار يتكثف، وما زالت العقلية كما هي، تزداد جهلًا وغلظة وغيبة عن الواقع.

لا فرق بين عامي ومتعلم ومثقف… فسقف المعرفة والوعي عندنا منخفض جدًّا.

فقط الغرور ببعض القراءات والشهادات والمعلومات الملونة والمبتورة.

***

وحين نشير إلى زرٍّ من عشرات الأزرار التي ترفع الكرب وتلطف الألم وتيسّر الحياة، يستغرب وينكر الناس أن هذا الزرّ الصغير والضئيل يفتح هذا الباب الضخم.

هذه هي قصة المصريين دون نقص أو زيادة.

يثقون في الطبيب حين يفتح جسدهم ويستسلمون له بإيمان عميق بالقدر.

وقد كان يُسمّى الطبيب قديمًا بـ”الحكيم”، ولكن حكيم اليوم الذي وهب عمره وجهده للمعرفة لا وزن له ولا ثقة فيه.

فالثقة في العمامة والجُبّة… والأوراق الصفراء.

لقد وصلنا إلى مرحلة لا يُرجى فيها سوى البقاء على قيد الحياة…

لكن حتى هذا الأمل لم يعُد يحمينا من خطر الانقراض.

وربما، فقط ربما، لو التفت أحدهم لذلك الزرّ الصغير…

***

في الملاهي يدخل الجمهور إلى بيت جحا، يتوه الجميع في المتاهة. كلهم يضحك ويتوقع المرح ثم الخروج بأمان.

لو تخيلنا متاهة كبرى تسع شعبًا من عشرات ومئات الملايين، الكل يتحرك في كل اتجاه باحثًا عن مخرج، ولا أمل.

ماذا لو قرّر إنسان أن يبادر بفعل مختلف؟

فحاول الارتفاع بالتسلق إلى أعلى.

الصعود شاق وصعب ويتطلب كفاحًا متواصلًا وإصرارًا على الوصول، حتى يصل إلى أعلى ويرتفع بحيث يستطيع أن يحظى برؤية شاملة لمسالك المتاهة كلها.

فينادي من أعلى على الملايين، ويُلقّنهم المسار الذي يجب أن يسيروا فيه حتى يخرج الجميع من المتاهة.

مرةً ثانية، لا ينفع الناس كثرتهم، ولا يُرشد الملايين إلا رُشد واحدٍ منهم يمتلك معرفة، ويشتغل عملًا يزهد فيه كل الناس، فيكون رسول هدايتهم ونجاتهم.

وماذا لو سبق للصعود شخص ماكر وبلا ضمير؟

في هذه الحالة سيكون غير أمين ويُضلهم ويُضاعف شقاءهم ويُطيل ضلالهم.

لذلك، كلما تطوّع بالصعود عدد أكبر ممن يُعرفون بضميرهم ونزاهتهم، كلما كان ذلك في صالح نجاة الشعوب ورشدهم.

***

الشعوب التائهة والشقيّة هي التي يقود قاطرتها نخبة ضعيفة أو شريرة.

ولا بدّ للشعوب من نخبة أمينة تقودها، فالنخبة هي ذكاء وحكمة وضمير وعاطفة الشعوب، وهي حجر الزاوية في تقدّمها أو تأخرها، سعادتها أو شقائها.

والحكومات الراشدة هي التي تبحث عن الموهوبين والممتازين ممن يصلحون ليكونوا نخبة.

بينما الحكومات الضالة المتخلفة هي التي تُقدّم أهل الثقة على أهل الكفاءة، وهذه معادلة ظالمة وبسببها تتوه الشعوب.

***

حين ينتشر مرض في المدينة، تُسارع الدولة بطلب المواطنين الذهاب إلى الوحدات الصحية، ويتناول كل فرد أقراصًا أو حقنة وقائية.

يخضع الجميع بسلام وثقة لنداء الدولة، فالنخبة الطبية في البلاد قامت بدراسة المرض واقتراح العلاج.

ولكن هناك أحوال خطيرة لا تكون فيها الاستجابة ولا الثقة في النخبة، حين تكون المشاعر والعاطفة قوية وضالة وجاهلة،

وحين ترتفع رايات وشعارات برّاقة وربما مقدسة، تشعل حماسة الناس على حساب الحكمة والخبرة.

***

في ثورة عرابي (1879–1882)، تم عزل رياض باشا، وكُلّف شريف باشا بتشكيل الوزارة. وكان رجلًا كريمًا مشهود له بالوطنية والاستقامة. فألّف وزارته في 14 سبتمبر 1881م، وتم وضع دستور للبلاد، ونجح في الانتهاء منه وعرضه على مجلس النواب الذي أقرّ معظم مواده. وكان بالوزارة وزير إنجليزي وآخر فرنسي لمراقبة الميزانية، لأن الخديوي إسماعيل ترك ديونًا هائلة على مصر. وهنا ثارت أزمة كبيرة نتجت عن الانفعال الثوري الذي دائمًا ما يُقلب السفينة ويُغرقها.

تصارعت فكرتان:

  • الأولى: لعرابي ومحمود سامي البارودي وبقية الثائرين، الذين رفضوا تعيين الوزيرين الأجنبيين بحجة أنه يمسّ الاستقلال والكرامة الوطنية.
  • الثانية: لشريف باشا، الذي خشي أن يؤدي القرار إلى تبرير احتلال مصر. ورأى أنه يكفي المصريين الفوز بمجلس نيابي حرٍّ منتخب، وإقرار الدستور، ليتمكن المجلس من التحكم في الإنفاق حتى تُسدّد الديون، ثم لا يتبقى مبرر لوجود الوزيرين.

ولكن، كما يحدث في كل الثورات، انتصر الرأي المتطرّف والمتعجّل، وعدا الثوار على النخبة الحكيمة التي تمثّلت في شريف باشا، وتمردوا عليه وعزلوه. واحتلت إنجلترا مصر.

النخبة تعرض الحلول “باردة” ولا تمزجها بالعاطفة والأحاسيس، لكن الجماهير قليلة الوعي، تتحمّس للقرارات المثيرة والعجولة. ولهذا، فالشعوب تُصبح عارية حين تفقد النخبة، أو ترفض تلقّي الحكمة منها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.