صالح مهدي محمد
اللوحة: الفنان السوري نافع حقي
ليس الإكثار من الصور الحسية هو ما يصنع الإيقاع في الشعر، بل التوازن بينها. فالشاعر يدرك متى يُفعِّل الصورة ومتى يترك الفراغ يتكلم. فالإيقاع الداخلي يتكوَّن من حضور وغياب، من امتلاء وفراغ يتناوبان ليشكلا موسيقى خفية. إن استخدام الصور بطريقة متناسقة يخلق انسجامًا لغويًا يجعل القراءة أكثر سلاسة وانسيابًا، ويمنح القصيدة بنية موسيقية غير مرئية تبقى في الذاكرة حتى بعد أن يصمت الصوت. وهكذا تتحول الصورة إلى نبضٍ في الجسد الشعري، ترفع الإيقاع أو تهدّئه، تبعًا للحالة الشعورية التي تريد القصيدة إيصالها.
حين نقرأ قصيدة، لا نُفتن فقط بمعناها، بل بما يجري خلف المعنى. فهناك موسيقى خفية تتحرك في طبقات النص، تجعل الكلمة تتنفس قبل أن تُفهم. هذه الموسيقى هي الإيقاع الداخلي، وهو ليس وزنًا عروضيًا ولا قافيةً محددة، بل طاقةٌ تنبع من العلاقة بين المفردات، ومن انتظام الصور وتفاوتها، ومن التوازن بين الهدوء والتوتر، وبين الفعل والسكون. فالإيقاع لا يأتي من الخارج، من القافية أو من عدد المقاطع، بل من الداخل، من التناغم النفسي والدلالي بين عناصر القصيدة. إنه موسيقى المعنى، النبض الذي يجعل لكل جملة زمنها الخاص، ولكل صورة نفسًا داخليًا.
الصورة الحسية ليست تزيينًا لغويًا، بل وسيلة لإعادة تشكيل الواقع عبر الإحساس. فحين يقول الشاعر: تسقط الريح في قلبي كما يسقط الضوء في الماء، فإن الصورة لا تكتفي بوصف بصري، بل تولّد موسيقى داخلية ناتجة عن تماثل الحركات بين الريح والضوء والماء. تعمل الصورة على مستويات متعددة؛ فهي توصل الإحساس عبر الحواس، وتفتح زمنًا جديدًا داخل النص، وتضيف إلى المعنى نغمة انفعالية تشكّل البنية الشعورية للقصيدة.
لكن التوازن بين الصور ضروري، فالإكثار منها يثقل النص ويفقده الإيقاع، إذ تتحول القصيدة إلى مشاهد مزدحمة لا تتنفس. أما الاقتصاد فيها مع اختيار اللحظة المناسبة لتكثيفها فيمنح النص خفة وعمقًا في آن واحد. فالشاعر كالموسيقي يعرف متى يعزف ومتى يصمت. والصمت الشعري، أي الفراغ بين الصور، جزء من الإيقاع نفسه، لأنه يمنح القارئ لحظة تأمل تشبه السكتة الموسيقية في المقطوعة.
منذ المعلقات حتى الشعر الحديث، ظلّ التوازن بين الصورة والإيقاع أحد أسرار الجمال. فالشعر العربي القديم، رغم التزامه بالوزن، حقق تناغمًا بين الوصف الموسيقي والخيال. وفي الشعر الحر وقصيدة النثر انتقل الإيقاع إلى الداخل، إلى طاقة اللغة نفسها. فالشاعر الحداثي لا يبحث عن الإيقاع في الوزن، بل في تواتر الأصوات، وتكرار البنى اللغوية، وفي الظلال الدلالية التي تتردد داخل النص. وحين يكرر السياب أو أدونيس كلمات من حقول دلالية متقاربة كالمطر والبحر والريح والصمت، فإنه يخلق دائرة صوتية تتناوب فيها الحروف والمشاعر، فينشأ إيقاع داخلي متدفق.
الجمال لا يقوم على الكثرة، بل على التنظيم؛ على توزيع العناصر بما يحفظ التوازن بين الصورة والإيقاع. فكل صورة جديدة يجب أن تخدم الحالة الشعورية العامة، لا أن تكون إضافة شكلية. إن التوازن الجمالي هو وعي الشاعر بحدود لغته، وإدراكه أن الشعر لا يُقال دفعة واحدة، بل يُوزن بالحدس كما يُوزن الصوت بالنفس. فالإفراط في الصورة كالإفراط في الزخرفة يحجب الجوهر، بينما التوازن يكشفه ويضيئه.
الإيقاع ليس عنصرًا معزولًا عن المعنى، بل هو شريك في توليده. فحين تكون الجمل متقطعة يتولد شعور بالتوتر والانفعال، وحين تمتد ببطءٍ هادئ يسود السكون والتأمل. وهكذا يصبح الإيقاع لغة عاطفية موازية للغة المعنى. وكذلك تؤدي الصورة دورًا مزدوجًا؛ فهي تُظهر المعنى وتخفيه في آنٍ واحد. وعندما تتكرر صور بعينها كالماء أو الطفولة أو العتمة، يحدث رنين داخلي يعمّق الإحساس بالوحدة الموضوعية للنص. عندها يصبح الإيقاع انعكاسًا للمضمون، والمضمون مرآةً للإيقاع.
هذه الجدلية بين الشكل والمعنى تجعل القصيدة كيانًا حيًا يتنفس داخل اللغة. فكل حركة إيقاعية تولّد معنى، وكل صورة حسية تغيّر نغمة الصوت الشعري. لذلك لا يمكن الحديث عن جمال القصيدة بمعزل عن هذا التوازن المتحرك بين الصورة والإيقاع. فالشعر هو فن المسافة بين الأشياء: بين الضوء والظل، بين الكلمة وصداها، بين الحضور والغياب.
هذه المسافة هي ما يخلق الإيقاع ويمنح الصورة الحياة. فحين يكتب الشاعر عن البحر، لا يكون البحر ذاته، بل المسافة بين الموجة وصوتها، بين الانفتاح والخطر.
القصيدة الإبداعية لا تُغرق القارئ في الصور، ولا تجرده منها، بل تتركه على حافة التوازن، حيث يلمح ولا يرى كل شيء. فهناك دائمًا ما لا يُقال، وما يُكتفى بالإشارة إليه. وهذا اللمح هو ذروة الجمال، لأنه يوقظ الخيال بدلًا من أن يُشبع العين. فالشاعر لا يصنع الإيقاع بالكلمة وحدها، بل بالمسافة بين الكلمات، ولا يصنع الصورة بالتشبيه فقط، بل بالتوتر بين المرئي والمخفي. هذه الازدواجية بين الوجود والغياب هي روح التوازن الجمالي الذي تتأسس عليه القصيدة الحديثة.
فالشعر ليس زخرفة لغوية ولا لعبة إيقاعية، بل بناء دقيق يقوم على حس جمالي يوازن بين الانفعال والوعي، بين العاطفة والفكر، بين الصورة والإيقاع. كل قصيدة حقيقية هي معمار من الأصوات والظلال، من الصمت والنطق، من الامتلاء والفراغ. وحين يحقق الشاعر هذا التوازن، يصبح النص كائنًا موسيقيًا نابضًا يعيش في السمع والذاكرة والوجدان. عندها تتجاوز القصيدة حدود اللغة، وتتحول إلى تجربة وجودية يعيشها القارئ كما لو كانت نفسًا من أعماقه.
إن التوازن الجمالي بين الصور والإيقاع هو جوهر الشعر، لأنه وحده القادر على تحويل اللغة إلى موسيقى، والمعنى إلى شعور، ليبقى الشعر أسمى أشكال الانسجام بين الصوت والرؤيا، بين ما يُقال وما يُصمت عنه.