قيمٌ بلا مساومة

قيمٌ بلا مساومة

اللوحة: الفنانة المصرية تحية حليم

بعض الأسئلة ليست بحثًا عن الحقيقة، بل كمينٌ للعقل والضمير. تُطرح بطريقةٍ تُرغمك على المفاضلة بين ما لا يُفاضَل فيه، كأن يُقال لك: في البحر، من تُنقذ أولًا، أمك أم زوجتك؟

سؤالٌ يبدو ذكيًا، لكنه فخٌّ خفيّ، لأنه لا يختبر وعيك، بل يربك وجدانك، ولا يبحث عن موقفٍ واقعيٍّ، بل عن خلخلةٍ أخلاقيةٍ في داخلك.

فلو حدث المشهد، فلن تدري ما تفعل، لأنّ المواقف لا تُعاش بالعقل وحده، بل بانفعال اللحظة وحرارتها. لذلك، ليست الإجابة أن تختار، بل أن ترفض التورط في فخ اللعبة وتقول: «عندما يحدث ذلك سأرى ما أفعل».

فما أكثر الأسئلة التي تُغرقنا قبل أن نرى البحر.

ومن هنا تبدأ حكايتنا مع القيم: كيف نحافظ عليها حين تُعرض علينا بثمن، أو حين تُختبر في لحظة ضعف، أو حين تلتبس علينا المصلحة بالحق؟

***

وقد واجه كثير من الصالحين مواقف شبيهة بهذا الامتحان الخفيّ..

ورد في كتاب ابن الجوزي «صفة الصفوة»: خرج عبد الله بن المبارك إلى الحج، فصحبه رجل، وكان معه مالٌ في عصًا قد نقرها، وجعل فيها الدراهم وسدّ رأسها. فخرج عليهم اللصوص في الطريق، فقالوا له: ما معك؟ قال: «مالي في العصا». فظنّوه يمزح وتركوه.

فلما أخذوا أموال الناس كلهم، رجعوا إلى كبيرهم، فقال لهم: «هل بقي أحد؟» قالوا: «رجل قال إن ماله في العصا». قال: «عليّ به».

فجاؤوا به، فكسرت العصا، فإذا فيها الدراهم! فقال له: «ما حملك على أن تخبرنا؟» قال: «الصدق». فقال اللصّ: «ما أحوجني إلى مثله!» ثم تاب التائبون منهم على يديه.

هذه قصة للوعظ، وتمثل فخا من زاوية أخرى خادعة، تدعو إلى الصدق مهما كانت النتيجة، ويتناقلها الناس، ولكن.. هل ما فعله هو الصواب؟ وهل لو صمت لكان صمته أقلَّ إيمانًا من قوله الصدق؟ وهل القيم في وقت السلم تظل مقدّسة في وقت الحرب؟

بين الصدق كقيمة، والحكمة كحمايةٍ للنفس، يبقى السؤال: أين تنتهي المبدئية، وأين تبدأ المساومة؟

***

حدثَ أن ارتكب تلميذٌ في الفصل خطأً يستوجب العقاب، فما كان من المعلّم إلا أن التفت إلى أحد زملائه وقال: «قُمْ فَاصفَعْهُ على وجهه!»

تردّد الصغير في مقعده، مأخوذًا بين الخوف والدهشة، فزمجر المعلّم مهدّدًا: «إن لم تفعل، صفعتُك مكانه!» فتقدّم التلميذ بخطواتٍ مرتجفة، وصفع زميله على مضض.

مشهدٌ بسيط في ظاهره، لكنه ترك في الأجيال ندبةً عميقة. فالمعلّم استخدم سلطته ليعلّم الطفل أول درسٍ في «كسر القيم»: أن تتخلّى عن الحق لتنجو، أن تتغاضى عن الظلم لتسلم. وأن تُؤذي بريئًا كي تتجنّب الألم.

نادرٌ أن يملك طفلٌ وعيًا وشجاعةً ليرفض هذا الظلم، ولهذا يكبر كثيرون وهم يحملون في داخلهم تلك الندبة الأولى، يتعلّمون باكرًا أن الفضيلة قابلة للمساومة، وأن النجاة قد تُشترى أحيانًا بثمنٍ أخلاقيٍّ باهظ.

***

وفي سياقٍ مختلف، لكن الدرس واحد… في أحد معسكرات الاعتقال النازية في الصحراء الجزائرية، كان روجيه جارودي أسيرًا مع نحو خمسمئة من المناضلين الذين قاوموا الهتلرية.

وفي يومٍ من الأيام، نظموا مظاهرة داخل المعسكر، فأصدر القائد الألماني أمرًا بإطلاق النار عليهم. لكنّ الجنود الجزائريين المكلّفين بتنفيذ الأمر رفضوا،وقال أحدهم: «من يطلق النار على إنسان أعزل، لا شرف له كمحارب».

بذلك الرفض، بقي جارودي حيًّا، ومن تلك اللحظة بدأت رحلته الفكرية نحو فهم الإسلام، بعد أن رأى في أولئك البسطاء تمسّكًا بالقيمة إلى حدّ التضحية بالحياة نفسها.

***

القيم «واحدٌ صحيح»، لا نصف ولا ربع ولا شِبْه قيمة. إما قيمة أو لا قيمة. ففي القيم لا مفاوضات، ولا حلول وسط، ولا تقسيمات رمادية.

طنّ من قيمة + جرامٌ من التنازل = باطل.

ولو خرجنا من قرن الأيديولوجيا السابق بهذه الحكمة لكفانا.

***

قرأت في شبابي قصةً تحمّستُ لها كثيرًا وقتها.. 

نوى «حسن البنّا» أن يرشّح نفسه للانتخابات في مواجهة حزب الوفد، وجلس الزعيمان وتفاوضا. ثم أعلن البنّا تنازله عن الترشح، وكان المقابل أن تقوم الحكومة بالتضييق على بيوت البغاء، وتوسيع مساحة الحرية لجماعته في نشر دعوتهم وإنشاء مقراتهم.

ومرّت الدورة البرلمانية وجاءت التالية، فأعلن ثانيةً ترشّحه، لكنّ التفاوض فشل وترشح وسقط في النهاية بتدخل السلطة. ولم يتعاطف الناس معه لأنه بدا وكأنه يتفاوض باسم جماعة، لا باسم الوطن.

قرأتُ هذه القصة وأنا شابٌّ وكنت شديد الإعجاب بهذا الذكاء، ولم أكن أدرك وقتها معنى القيم المطلقة كما أفهمها الآن. لكن لو تخيّلنا أن الحزب المقابل كان شيوعيًا أو إلحاديًا أو يدعو للمجون، وتنازل عن ترشّحه مقابل مكاسب خاصة، هل كنت سأحمد ذكاءه وأثني على قراره؟

لا شك أن الإجابة: لا. كنت متحمسًا للشخص وللأيديولوجيا، لا للقيمة. ولم أنتبه أن العدل لا يُقاس بالانتماء، وأنّ التفاوض على القيمة سقوطٌ مهما كانت المبرّرات.

***

الناس كادت أن تعدم من يتمسك بالقيمة لقرنٍ كامل بسبب الأيديولوجيا. والتفاوض على القيمة يشبه في أذاه وشرِّه مبدأ «التقية» الذي يعتنقه البعض،فكلاهما يخلط الطاهر بالملوّث باسم المصلحة.

من يرشّح نفسه من أجل الناس لا يتنازل في الغرف المغلقة، حتى لو كان الاتفاق أخلاقيًا. فلا تفاوض في الخفاء لصالح الدعوة ولا الدين ولا الشعب.ومن يمثّل الناس علنًا، فعليه أن يتفاوض علنًا ويحترم الناس.

***

وعلى الضفة الأخرى؛ يقف الإمام محمد عبده، الذي رفض إغراء الخديوي حين عُرض عليه منصبٌ كبير في الأزهر مقابل تمرير قطعةٍ من أوقاف المسلمين إلى يد الحاكم.

كان بوسعه أن يتذرّع بأنه سيُصلح من الداخل، لكنه أدرك أن الإصلاح لا يولد من رحم التنازل عن الحق، فآثر الخسارة الشخصية على خيانة المبدأ.

***

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]

في هذه الآية، أمرنا الله تعالى بالعدل في الشهادة، حتى لو كانت الشهادة تضرُّ بالنفس أو الوالدين أو الأقربين، طالما هي شهادةُ حق. وحذّرنا أن يدفعنا نفوذُ الأثرياء إلى مجاملتهم، أو أن تدفعنا الشفقةُ على الفقراء إلى الشهادة بما يُخالف العدل.

في هذا المثال القرآني، «التزامُ القيمة الكاملة» يتجلّى واضحًا: العدلُ، وفقط العدلُ، مهما كانت العوامل التي تميل بالقلوب أو تزيغ بالبصائر.

***

القيمة لا تتجزّأ، ولا تُؤخذ على جرعات، ولا تُستعار عند الحاجة. إما أن تسكنك كاملة… أو تتركك كلّها.

***

«إنّ القيم التي تُساوَم تُفقد معناها، ولو بقيت الأسماء.»

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.