د. عوض الغباري

الأديبة أماني عز الدين مبدعة لها أسلوب بلاغي جميل، وتدل أعمالها من روايات وقصص على شخصيتها الإنسانية النبيلة. وهذه الرواية سرد لوجع إنساني يصور القهر الذي تتعرض له المرأة القوية التي تستمد من ضعفها وظلام حياتها النور والأمل والبعث من الآلام والأحزان بالعلم والإيمان والفكر والأدب والامتداد للقيم الأصيلة التي تنشأ عليها الأجيال التي عاشت في بيت العائلة الكبيرة. والرواية منذ عنوانها إلى نهايتها مسرودة بضمير المتكلم وكأنها مناجاة المبدعة عزاء وسلوى للمرأة المظلومة، ودستور للانطلاق من أسر القهر إلى انطلاق الحرية المسئولة المرتبطة بالتقاليد الإيجابية في مجتمعنا المصري.
المرأة هي مدار الرواية وبدايتها ونهايتها كائنا حائرا في الصراع بين العقل والقلب، النور والظلام، القيد والحرية، الصواب والخطأ، الحقيقة والسراب. والرواية خطاب إلى أولئك الذين يتساءلون عن معنى الألم على حد التعبير الرائع لمقدمتها. والجدة في الرواية هي عصبها، تتحكم في الأسرة، وتمثِّل الحياة المصرية في بيت العائلة الكبير بما فيه من إيجابيات وسلبيات.
تتمرد بطلة الرواية واسمها “آسيا” على ظروفها القاسية محبة مخلصة لزوجها الذي وقفت بجانبه فكان جزاؤها الغدر والصدود منه لحرمانها من الإنجاب الذي جعله يتزوج من أخرى لتحقيقه.
نبتت بطلة القصة ورقة يانعة في شجرة بيت العائلة الكبير بعراقته وأصالته وتعبيره عن قيم المجتمع المصري. ومضت رحلة حياتها التي انتهت بالمأساة فرجعت إلي بيت العائلة في تصوير جميل رائع عودا على بدء، والتحاما لنهاية الرواية ببدايتها.
تعرضت أم البطلة لقهر الجدة، وتحكمها في حياتها ببيت العائلة، وحيرة الزوج؛ ابن الجدة ووالد بطلة الرواية في المعركة بين أمه وزوجته.
لكن الجدة التي صقلتها حكمة الزمان لا تتمادى في الشدة والقسوة على أسرتها، بل ترجع عن ذلك في نهاية الرواية التي صوَّرت مشهد وفاتها تصويرا مهيبا حزينا مؤثرا جعلنا نتعاطف معها.
الرواية معزوفة حزينة تصور أحداثها وشخصياتها المبدعة أماني عز الدين بفيض من المشاعر الراقية الرقيقة تمدها ثقافة واسعة، وإحساس بوقع الكلمة وأثرها في النفس، وغوص على المعاني الإنسانية الصادقة العميقة.
ونجحت الكاتبة في تجسيد صور المعاناة من التيه والوحدة أملا في الخلاص من قيود القهر والهوان. وتيمة الرواية متمثلة في النور يتسلل من خلال الظلام تنبعث في أسلوب سردي بلاغي يبدو قطعة أدبية شاعرية ساحرة آسرة. وكما كانت المرأة عماد الرواية، فكذلك كان المكان وما يربط بطلة الرواية به في بيت العائلة شجرة راسخة الجذور في وجدانها، وملجأ وملاذا ترجع إليه في أفراحها وأتراحها، ومسرحا لذكريات طفولتها الجميلة في أحضان جدتها التي تحنو عليها دون سائر الأسرة.
والرواية بحث عن الذات في عالم متوحش، وروح لا تستجدى البقاء، بل تحارب لأجله، وتستمد قوتها من إيمانها العميق بتفردها على حد التعبير الجميل الكاشف عن فحوى الرواية، ورسالتها، وهدفها، كشفه عن فلسفة مبدعتها، ورؤيتها للحياة في مفارقتها بين اليأس والأمل.
والرومانسية واضحة في تعبير بطلة القصة عن ذاتها بقولها: “تملأني الثقة أنني أحمل قلبا يتسع للجميع، وروحا شفافة محلقة ما بين الأرض والسماء”.
وبناء الرواية متماسك، وأحداثها وشخصياتها متنامية تدفع بالقارئ إلى تتبعها في سلاسة وحبكة درامية من البداية إلى النهاية. وقد لعبت حكايات الجدة لبطلة الرواية دورها في تنمية خيالها القصصي معبرة عن أهمية ذلك في تكوين شخصية الطفل فنانا مبدعا بعد ذلك. والرواية بارعة في وصف بطلتها للأم والأب والعم والعمة والجد والجدة في محيط الأسرة التي يمكن أن نجد مثلها الكثير من الأسر المصرية، فيمتزج الخيال بالواقع في نسيج سردي رائع. أما البحر وتأثيره الساحر في النفس فقد تجلى في قول بطلة الرواية: “وأخذت أتطلع إلى مياه البحر اللامتناهية وهي ترسل أمواجا متصارعة تتلاطم بعنف، ثم تعلن عن انهزامها أمام الشاطئ، وتتناثر كذرات الغبار”. وهنا أيضا يتجلى الأسلوب الشاعري للكاتبة، كما في تصويرها للوحدة بقولها: “أنا والصمت ينساب بين جدران المنزل نملأ فراغاته بروح ثقيلة، وكأننا نحيى الظلال الساكنة في أركانه”.
أما المواقف الدرامية في الرواية فجاذبة مشوقة رغم أحزانها، ومنها انفصال والد بطلة الرواية عن بيت العائلة عندما عجز عن حل الخلاف بين زوجته وأمه، وإحساس بطلة الرواية الطفلة باغترابها عن بيت العائلة، وحنينها إلى حنان جدتها، خاصة أن أمها قد تغيرت من الضعف والقهر إلى التحكم والسيطرة بعد الانتقال إلى بيتها المستقل، وأنها لا تستريح إلى ميل ابنتها إلى جدتها التي جرَّعتها الغصص، وأساءت معاملتها.
ومن المواقف الدرامية الحزينة قصة حب العمة؛ فارقها حبيبها، وانتظرته مدة طويلة إلى أن صادفته بلقاء انتهى نهاية مأساوية بزواجه من أخرى، وضياع عمر العمة في انتظاره سدى. أما المحور الدرامي الأكبر في الرواية فيتمثل في طلاق بطلتها بعد قصة حب عميقة، ورفضها الرجوع إليه بعد ذلك مصوِّرة أحزانها في مشاهد مؤثرة في النفس، مناجية ذاتها بما يثير الشجون، والرغبة – مع ذلك – في الاستمرار والنهوض من هذه الكبوة رغم صعوبتها وجراحها النفسية والبحث عن الاحتواء الذي كان سرابا، وعن سعادة “تبدو كأنها ظلال بعيدة… تبدو كسراب”.
لقد ضَحَّت بطلة الرواية بالحب من أجل الكرامة والطموح إلى العزة والتفرد.
ومن أهم ما يصوّر الكتابة في الرواية أنها تعبير عن المشاعر، وأن الموسيقى تعبير عن الروح، وأنها لغة الروح والقلب، وكأن في هذا معادلة للعذاب التي تتطهر منه النفس باللجوء إلى الفنون.
أما النصيحة التي نستشفها على لسان أبطال الرواية فهي أن نعيش الضعف حتى النهاية، إذ الإنسان لا بد أن يعترف بضعفه في مرحلته حتى يستطيع بعد ذلك أن يقاومه ويجتازه.
وأما الحب فتعبر عنه الرواية بما يفيد أنه تحقيق للسعادة، وإن لم يكن كذلك “فما هو إلا سراب”. ولكن الأمل لا ينقطع في بهجة الحياة، “فكما لكل شتاء ربيع، لكل قلب عودة للحياة” على حد تعبير الرواية.
إن فلسفة الرواية تنعكس في سعى بطلتها للانعتاق من القيد إلى الحرية، ومن الخريف إلى الربيع، ومن الانطفاء إلى التوهج.
إنه اللواذ بالحماس ودعم العائلة والإرادة في اكتشاف للبعث من تحت الرماد، ورحلة العودة إلى الحياة.
جعلت بطلة الرواية مقصدها إلى ذلك ولوجها إلى عالم الأزياء والموضة وتصميم الملابس حيث عملت به، ونجحت فيه، وكان أساسه ما تعلمته من الجدة التي أجادت فنونه، فوصلت حفيدتها إلى إنشاء خط أزياء عالمي.
وهنا تتحقق السعادة بمفهومها الذي صورته قصة الحب الجميلة بين أحد أعمامها وزوجته. فالسعادة ليست هبة، بل هى شعور نصنعه بأنفسنا على حد تعبير الرواية.
لقد خطت بطلة القصة سطوراً وحكايات جديدة بلغة الروح والقلب، وطموحات وآمالا عبرت عنها ببعث رمادها من جديد بعد تجارب قاسية أسقطتها في هاوية من الرماد، لم يلبث أن يستحيل إلى وهج الحياة متجددة انتشلتها من اليأس والضعف إلى القوة والأمل.
وصورت الرواية فضيلة التسامح بأنه رحلة للتصالح مع الذات، كما صورت الحب بأنه أساس الثقة والبدء بعد الحزن، وتمثل ذلك في المصالحة بين زوجة الابن والجدة.
كذلك أثبتت هذه المصالحة أن القوة ليست في التشبث بمواقفنا بل بالقدرة على الغفران والبدء من جديد، على حد تعبير الرواية.
وقد أدت هذه القيم الجميلة إلى الحب والاحترام واستعادة الاستقرار النفسي للعائلة.
كذلك من معاني الرواية أن الفقد قد يكون طريقا للاكتمال، وتمثل ذلك في أن أحزان بطلة الرواية للحرمان من الإنجاب، وفقد زوجها كانت مؤدية إلى تحقيق ذاتها أخيرا.
ثم كان المشهد المهيب الحزين الجليل في نهاية الرواية بنبوءة الحلم بوفاة الجدة التي تركت رسالة إلى من أضاء لها الطريق وأخذ من عينيها البريق. إنها رواية حافلة بكل ما يثير في النفس الشجون ويبعث فيها الأمل رغم الأحزان، تستحق عليها المبدعة أماني عز الدين كل التهنئة والتقدير والاحترام.

أماني عز الدين