طريقٌ إلى الداخل

طريقٌ إلى الداخل

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان اللبناني مصطفى فروخ

حين نزل «حكيم» إلى المدينة، كان يحمل في جيبه رسالةً مختومة بالشمع الأحمر، أرسله بها مختارُ القرية ليُنجز أمراً عاجلاً في الدوائر الرسمية. لم يكن يعرف أن تلك الورقة ستكون أوّل خيط يربطه بعالمٍ آخر؛ عالمٍ لا يعرف الصمت، ولا ينام على صوت الديكة، بل على صرير السيارات وأضواء النيون التي لا تطفأ.

في الأيام الأولى، بدا كالغريب الذي نُزع من تربته. كان يحدّق في الوجوه المسرعة كما لو أنّ الريح تطاردها، ويتلمّس ملامح الناس فلا يجد فيها دفءَ «العشيرة»، ولا تلك النظرة التي تقول: «نحن نعرفك منذ كنتَ طفلاً».

لكن شيئاً ما في صخب المدينة أغواه؛ ربما رائحة الخبز في الصباح، أو حركة الأرصفة التي لا تهدأ، أو تلك المسافة الغامضة بين إنسانٍ يبتسم وآخر لا يعنيه أن يراك. كان كلُّ شيء جديداً… حتى الغربة نفسها.

وحين أنجز مهمته، لم يعد.

لم يعد لأنه لم يجد سبباً كافياً ليعود.

كانت القرية في ذاكرته تتناقص كل يوم، كأنها لحظات ثمينة تتلاشى عند المغيب، بينما كانت المدينة تكبر داخله وتزهو بحكاياتها الكثيرة.

بدأ عمله من «المسطر» – ذلك الميدان الترابي الذي يجتمع فيه العمال عند الفجر، بوجوهٍ متعبة وعيونٍ تتوسل فرصة يوم. وقف بينهم لا يعرف الحيلة، ولا الكلمة التي تفتح الأبواب، لكنه كان يعرف الصبر.

عمل في البناء: يحمل الطابوق، يخلط الرمل، يُصلح الأخطاء التي يرتكبها الآخرون. ومع الوقت، صار هو من يُصلح الأخطاء قبل أن تقع. تعلّم المهنة لا من الكتب، بل من صلابة الجدران التي رفعها، ومن العرق الذي كان يقطر من جبينه مثل وعدٍ لا يُكسر.

لم يكن أحد يعرف من أين جاء؛ كانوا ينادونه: «المجهول».

و«المجهول» صار اسماً له، لا يجرؤ أحد على تغييره. ومع ذلك كان يبتسم لذلك اللقب، كأنه يعرف أنّه في طريقه إلى أن يصبح «معروفاً».

شيئاً فشيئاً تغيّر كلُّ شيء:

صار يتقن حساب الكلفة والوقت، يعرف أين يُوضَع الحديد، وكيف تُقرأ خرائط المهندسين، حتى بدأ الناس يثقون بيده أكثر من أوراقهم.

ثم صار هو من يوزّع العمل، لا من ينتظره.

ومع كل بيتٍ يبنيه، كان يبني لنفسه طبقةً جديدة من الطموح، كأن الطوب لا يعلو إلا ومعه قلبُه أيضاً.

وفي سنوات قليلة، صار اسمه يُذكَر في مقاهي المدينة: «ذاك المجهول الذي صار مقاولاً كبيراً».

لم يكن يعرف كيف وصل إلى هنا، لكنه كان يعرف جيداً أنه لم يعد ذاك الرجل القروي الذي جاء بورقةٍ مختومة. فقد صار له مكتب صغير على شارعٍ مزدحم، تزين فوق بابه لافتةٌ كُتب عليها اسمه الأول فقط: حكيم.

ولم يكن يحتاج أكثر من ذلك.

أما القرية، فكانت تروي قصته على نحوٍ آخر:

«خرج ولم يعد… ربما ضلّ الطريق، أو سحرته المدينة».

وأما المدينة، فكانت ترويه كواحدٍ منها:

«جاء مجهولاً، وبنى نفسه كما تُبنى البيوت: حجراً فوق حجر، حتى صار هو البيت».

لكنه، في المساء، حين يطفئ الأضواء، يسمع من بعيد نداءً خافتاً – صوت الأرض الأولى – يسأله: هل انتهت المهمة؟

فيبتسم دون جواب، لأن المدينة صارت مهمته التي لا تنتهي.

مرّت الأعوام، و«حكيم» لم يعد يعرف إن كان الزمن يقيسه بالسنين أم بالبنايات التي شادها.

صار له مكتبٌ واسع، وأوراقٌ تحمل ختمه، وعمّالٌ يحيّونه بوقار.

لكن في أعماقه ظلّ ذلك الفتى القروي متأهّبًا، ينصتُ لصوتٍ خفيّ يأتيه من بعيد، كأنه صدى من جهةٍ لم تعد موجودةً على الخريطة.

في مساءٍ شتويّ، حين كانت الأمطار تضرب الزجاج بعنف، جلس في مكتبه بعد أن غادر الجميع.

على الطاولة ملفّاتٌ، ومخطّطاتٌ، وكوبُ قهوةٍ باردة.

نظر حوله، فأدرك أن كلّ شيء من صنع يديه، ومع ذلك لا شيء منه يشبهه؛ كأن المدينة ابتلعته واحتفظت به كتذكارٍ من طينٍ قرويٍّ نادر.

تذكّر القرية لأوّل مرة منذ زمنٍ بعيد.

تذكّر أمَّه وهي تلوّح له عند أطراف الطريق، وذاك الكلبَ الذي تبِعه مسافةً طويلة ثم عاد.

تذكّر رائحةَ الأرض بعد المطر، وصوت الماء في الجدول الصغير الذي كانوا يسمّونه «وادي الحلم».

شعر بوخزةٍ غريبة، كأنّ ذاكرته تريد أن تثأر من نسيانه.

في الأيام التالية، بدأت المدينة تضيق عليه رغم اتّساعها.

كلُّ شارعٍ صار يذكّره بشيءٍ مفقود، وكلُّ نافذةٍ مغلقةٍ تُعيده إلى باب البيت الطيني الذي كان يُفتح بلا قفل.

حتى الأصوات تغيّرت في أذنه؛ لم تعد ضوضاء المدينة تشغله، بل تؤذيه.

صباحٌ ينساب بهدوء، توقّف أمام مرآة مكتبه، فرأى رجلاً لا يعرفه: وجهٌ مشدود، عينان قاسيتان، وبدلةٌ أنيقة لا تنتمي إليه.

سأل نفسه بصوتٍ خافت: «أين حكيم؟ ذاك الذي جاء بورقةٍ من القرية؟»

لكن الجواب لم يأتِ.

جاء بدل الجواب اتصالٌ من أحد عمّاله:

ـ «المهندس يريدك في موقع العمل الجديد… البيت الفخم على أطراف المدينة.»

أجاب بنبرةٍ غريبة:

ـ «قادم.»

حين وصل، وقف أمام أساسات بيتٍ فخمٍ قيد البناء.

رائحةُ الإسمنت المبلّل اختلطت برائحة الأرض الرطبة، فأحسّ بشيءٍ يتفتّح في صدره.

اقترب من التراب، غرس كفَّه فيه كما لو يختبر نبض العالم.

تذكّر لحظة الطفولة حين كان يحفر بيده ليغرس بذرة، لا ليقيم جدارًا.

قال في نفسه: «ربما آن أن أبني بيتًا آخر… بيتًا لا يبيعني لأحد.» 

ومنذ ذلك اليوم تغيّر كلُّ شيء.

صار يوزّع عمله ويقلّ حضوره في مواقع المشاريع، كأنه يتخفّف من المدينة حجرًا بعد حجر.

بدأ يقرأ ليلًا عن القرى القديمة، عن الزراعة، عن الحرف اليدوية، كأنه يبحث عن طريقٍ عكسيّ.

حتى اسمه على اللافتة بدأ يخبو؛ غطّاه الغبار فلم يمسحه أحد.

وذات فجرٍ، خرج من المدينة.

لم يقلْ لأحدٍ وجهته، ولم يترك رسالةً ولا وعدًا.

حمل فقط حقيبةً صغيرةً فيها بعض النقود، وعلبةً فيها ترابٌ من أوّل بيتٍ بناه.

في الطريق، رأى الأفق يفتح ذراعيه كأمّ تنتظر عودةَ ابنها.

كانت الشمس تخرج من وراء الجبال، وكانت الريح تهدهد الخطى كأنها تباركها.

في تلك اللحظة أدرك «حكيم» أن المهمة لم تكن يومًا في المدينة، بل في العودة إلى ما تركه هناك، في أن يبني نفسه هذه المرة من الداخل، لا من الحجر.

عاد «حكيم» إلى القرية كما يعود الغبار إلى الريح، بلا إعلانٍ ولا ضجيج.

يبدو الطريق أطول مما ظنّ، وكأنّ الأرض نفسها تصمّم على اختبار صدق عودته.

وحين مرّ بالتلال التي يعرفها، شعر أن الزمن يمشي على مهلٍ هنا، لا يركض كما يفعل في المدينة.

حتى الهواء كان أكثر حضورًا، كأنه يسلّم عليه واحدًا واحدًا.

اقترب من تخوم القرية.

كانت البيوت قليلة كما تركها، لكن الجدران شاخت، والسقوف انخفضت، والطرقات باتت أضيق، كأنها تلتفّ حول أعمار أهلها.

تساءل في نفسه: «هل تغيّرتِ القرية… أم أنا الذي تغيّرت؟»

رآه أولُ طفلٍ يركض في الطريق الترابي، فتوقّف، وحدّق فيه، ثم صاح:

ـ «يا جدّي، هذا غريب!»

ضحك «حكيم» لأول مرة منذ أعوام، وقال بصوتٍ مرهق:

ـ «أنا لست غريبًا… كنتُ من هنا.»

لكن الطفل ركض مبتعدًا وهو يصرخ محذّرًا الآخرين:

ـ «رجلٌ مجهول وصل!»

عند المدخل، رأى رجلًا مسنًّا يجلس على صخرة، عصاه بين قدميه، وعيناه نصفُ مغلقتين.

تقدّم نحوه بخطى بطيئة.

قال العجوز:

ـ «مَن أنت يا ولدي؟ هل ضللت الطريق؟»

أجاب حكيم بحرج:

ـ «أنا… حكيم.»

رفع العجوز رأسه فجأة، وحدّق فيه طويلًا، ثم ضاقت عيناه كأنهما تفتّشان في ذاكرةٍ مثقلة.

قال بصوتٍ متهدّج:

ـ «حكيم… ابنُ خِيرة؟ ابنُ تلك المرأة التي انتظرتك حتى مرض قلبها؟»

ارتجف قلبه.

تعثّرت الكلمات في حلقه:

ـ «أهي… ما تزال…؟»

هزّ العجوز رأسه ببطء، بعينين تُشبهان غروبًا بعيدًا:

ـ «رحلت منذ عامين، وكانت تنظر كلَّ مساءٍ ناحية الطريق التي تأتي منها الآن.»

كأن الدنيا انكسرت داخل صدره.

جلس على التراب، وأسند وجهه إلى يديه، وشعر أن كلّ ما بناه في المدينة يتهاوى فوقه: العمارات، العقود، المال، الأبواب اللامعة… كلّها تحوّلت إلى غبار.

سأله العجوز بلطفٍ مفاجئ:

ـ «ولِمَ عدتَ الآن؟»

أجاب بصوتٍ يشبه اعترافًا:

ـ «لأبني ما تركته ورائي… لأعيد نفسي.»

مشى نحو البيت الطيني القديم.

كان الباب نصفَ مفتوح، كأن أحدًا تركه هكذا لأجله.

دخل ببطء، فتلقّفته رائحةٌ مرّ عليها العمر: رائحة التراب المبلّل، والعرق الطيّب، والخشب الرطب.

على الجدار صورةٌ قديمةٌ له، بملابس القرية، مبتسمًا كأنه يعرف أن هذا الغريب سيعود إليه يومًا.

في تلك اللحظة فهم أن العودة ليست مجرد دخول بيت، بل اقتحامٌ للزمن ذاته.

جلس في وسط المكان الفارغ، وقال بصوتٍ مسموع:

ـ «سأبدأ من هنا.»

وفي اليوم التالي، بدأ يبني.

لم يكن يبني بيتًا جديدًا، بل يعيد ترميم القرية نفسها.

جمع الشباب، وعلّمهم ما تعلّمه في المدينة: كيف يرفعون جدارًا مستقيمًا، كيف يخلطون الإسمنت بالنَّفَس الصحيح، وكيف يصبح العمل لغةً بين الأيدي والقلوب.

صار الناس ينادونه باسمه الحقيقي لأول مرة منذ سنوات:

«حكيم… حكيم رجع.»

لم يعد «المجهول» في المدينة، بل صار «الابن» الذي عاد ليكون جسرًا بين زمنين.

لم يعد مقاولًا يبني البيوت للآخرين، بل صار روحًا تبني حياةً جديدةً لمن حوله.

وفي المساء، حين وقف فوق تلّةٍ تطلّ على القرية، رأى أضواء بسيطة تتلألأ كفرحٍ خجول.

فهم أن المدينة أعطته اليد، والقرية أعطته القلب.

وأنه لا بدّ للبناء أن يجمع الاثنين ليصير إنسانًا كاملًا.

لم يكن «حكيم» يتوقّع أن خبر عودته سيصل إلى المدينة بهذه السرعة.

فبعد أشهر قليلة من استقراره في القرية، وبدء مشروعه الكبير لإعادة ترميم البيوت القديمة، وصلته في صباحٍ باكر سيارةٌ فاخرة، تثير العيون بصوت محرّكها الغريب على الطرق الترابية.

نزل منها رجلان ببدلاتٍ رسمية، يحملان دفترًا وابتساماتٍ متحفّظة.

تقدّم أحدهما قائلاً:

ـ «أستاذ حكيم… نحن من شركة التطوير العمراني في المدينة. وصلنا خبر مشاريعك هنا، ونودّ الحديث معك حول تعاونٍ مهم.»

ابتسم حكيم بهدوء، ليس كبرياءً، بل كمن يعرف الطريقين ويعرف ثمنهما.

أجلسهما في فناء البيت الطيني، وقدّم لهما الشاي في أكوابٍ زجاجية بسيطة.

كان المشهد غريبًا: بدلتان لامعتان وسط غرفةٍ جدرانها من طين، سقفها من جذوع السدر، ونورها من شمسٍ بلا حجاب.

قال الرجل الأول بعد رشفةٍ سريعة:

ـ «نريد شراء مساحات من القرية لإقامة مشروع سكني حديث. وجودك هنا سيُسهّل علينا الأمر. سنعطيك نسبة كبيرة، وتعود لتكون مقاول المدينة الأوّل.»

ساد الصمت لحظةً قصيرة. كان العرض مغريًا، يفتح أبوابًا واسعةً للثراء.

لكن حكيم نظر إلى بيوت القرية، إلى الشباب الذين يعملون معه، إلى الطفلة التي تساعد أمّها في جلب الماء، إلى الجدّ الذي يجلس كل صباحٍ أمام منزله ليقرأ الوجوه… ثم إلى التراب الذي يعرفه منذ طفولته.

وقال بهدوء يشبه حكمة الاسم الذي يحمله:

ـ «المدينة قدّمت لي الكثير وعلّمتني أكثر، لكنها أخذت مني ما لن يعود. هنا… أستعيد ما بقي مني. هذا المكان ليس أرضًا للبيع، بل حياةٌ تتنفّس.»

تبادل الرجلان نظراتٍ سريعة، ثم قال أحدهما ببرودٍ رسمي:

ـ «إذن… ترفض؟»

أجاب بثبات:

ـ «أرفض أن تتحوّل القرية إلى نسخةٍ مكسورة من المدينة. إن شئتم التعاون، فليكن لبناء شيءٍ يحفظ المكان لا لطمسه.»

لم يفهم الرجلان فلسفته، لكنهما أدركا أنه لن يتنازل.

غادرا بصمتٍ يشبه الهزيمة، تاركَين وراءهما غبارًا خفيفًا وشعورًا بأن المدينة، لأول مرة، لم تربح.

بعد رحيلهما، تجمّع أهل القرية حول حكيم. كانوا خائفين من أن تُباع أرضهم، ومن أن يبتلعهم الإسمنت.

طمأنهم قائلاً:

ـ «لن يدخل مشروعٌ إلى القرية إلا إن كان من أجلها لا على حسابها. سنبني بيوتنا نحن… وبأسلوبنا.»

ومن تلك اللحظة صار حكيم ليس فقط البنّاء، بل الحامي والمرشد، والجسر بين زمنين متباعدين.

كبر المشروع، لا على اتساع البناء، بل على اتساع أثره: طرقٌ أصلحوها، بيوتٌ رمّموها، بستان أعادوا زراعته، ومدرسةٌ صغيرة أعادوا فتحها بعد أن كانت مهجورة.

وصار اسم «حكيم» يُنطق في القرية بنبرةٍ فيها احترامٌ عميق:

ابنٌ عاد، ولم ينسَ.

وذات مساء، بينما كان يقف على التلّة التي تطلّ على القرية، رأى الأضواء الصفراء تتلألأ كأحلامٍ صغيرة تحرس المكان.

تذكّر المدينة بأضوائها القوية الصاخبة، وشعر أنه أخيرًا وجد توازنًا: لم يعد يهرب من المدينة، ولم يعد أسيرًا لها. لم يعد ضيفًا في القرية، ولا غائبًا عنها.

كان أخيرًا… حكيم.

الرجل الذي بنى نفسه مرّتين: مرّة في المدينة، ومرّة في القلب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.