اللوحة: الفنان الفلسطيني سليمان منصور
سعاد الراعي

الفصل السادس من رواية تحت الطبع للكاتبة سعاد الراعي
كان صوت انفجار الرصاص مزلزلًا، وجافًّا كحدّ السيف: اهتزّت الجدران الهادئة لهذا المكان المكرَّس للحياة، وكأنّ نبضه الخاص توقّف لحظةً قبل أن يستعيد دفقه المرتبك. لم تنتظر إيفا تفسيرًا أو أمراً من أحد؛ اندفعت راكضة، تتبعها خطى الممرّضين والأطباء الذين خرجوا من غرفهم كأنهم يركضون نحو فاجعة يعرفونها دون أن يروها. كانت إيفا تشعر بأن الهواء أصبح أثقل من أن يُستنشَق، وكأن كل خطوة تطأها تعجّل وصولها إلى كارثة لم تكن مستعدة لها مهما بلغ استعدادها، وعندما أوشكت أن تبلغ باب غرفة حياة، تسارعت دقّات قلبها في صدرها حتى ظنّت أنّها تسمعها بأذنيها. دفعت الباب الموارب بعنف، بهتت… ثم تجمّدت…
هناك، على تلك الأرضية البيضاء الهادئة، تساقطت براءة الحياة الموعودة. رذاذًا أحمرًا لوّن أجناب السرير. كأن الرصاصة لم تخترق جسد فتاة فحسب، بل اخترقت قدسيّة المكان نفسه، ذلك المكان الذي يُفترض به أن يحرس أنفاس المحتاجين، لا أن يشهد توقفها.
شهقت إيفا شهقة انطلقت من الأعماق، من مكان لم تكتشفه في نفسها من قبل؛ مكان يجمع الرعب والعجز ولوم الذات في قبضة واحدة. ثم ارتفع صوتها صارخاً، صوتاً بدت نبراته أقرب إلى صوت أمٍّ فقدت وليدها منها إلى صوت ممرضة محترفة. ومع الصرخة، خذلتها قدماها، فسقطت بجانب الباب كمن يسقط من قمّة الوعي إلى قاع لا قرار له. أغمي عليها، وقد ظلّ صدى صرختها يهتز في الغرفة كارتجاف جناح مذعور.
لم تكن إيفا بالنسبة لحياة مجرّد ممرضة تراقب جهازاً طبياً؛ كانت ظلّها الحاني، وكانت قد حملت على عاتقها وعداً شخصياً لم يسمعه أحد سواها: أن تحمي هذه الروح الصغيرة من قسوة العالم، طالما بقيت هي قريبة منها.
كانت حياة بالنسبة لها ابنةً لم تنجبها، ونافذةً على معنى أعمق للمهنة التي اختارتها. ولذلك، حين رأت الدم يمتدّ من الفراش الى البلاط، شعرت أنّ ذلك الوعد قد انكسر في يديها كزجاج هشّ.
ساد الارتباك المكان. دهشةٌ وذهولٌ تلبّسا وجوه الجميع: الأطباء الذين اعتادوا مواجهة الموت، والممرضات اللواتي خبرن أصوات الاحتضار، جميعهم وقفوا مشدوهين أمام مذبحة وقعت في قلب حصنٍ يُفترض أنّه مُحرّم على الرصاص. كانت الصدمة أكبر من قدرتهم على الكلام…
كأنّ الأفواه نسيت اللغة.
لم يخرق هذا الصمت سوى صوت زميلة إيفا الأقرب، تلك التي كثيراً ما شاركتها نوبات الليل الطويل، همسات الخوف، وأحلام الهروب من هذا البلد الذي طالته يد العنف. كانت تعرف إيفا معرفة تكاد تبلغ حدّ قراءة الروح، ولذلك كانت أسرعهنّ إلى الانحناء فوقها. هزّت كتفيها برفق أولاً، ثم بقلق يتصاعد، هتفت تستدعي المساعدة:
“ساعدوني! إيفا لا تستجيب! نحتاج لإنعاشها فوراً”!
تدفّق الجميع نحوها، كأن صيحتها أعادت إليهم وعيهم. انقسموا في لحظة إلى فريقين: فريقٌ ركع إلى جانب إيفا يحاول استعادة وعيها، وآخر اندفع إلى خارج الغرفة لإبلاغ الإدارة، بينما تولّت طبيبة الطوارئ إغلاق الستائر وحماية ما تبقى من كرامة الجسد المسجّى.
كانت إيفا في عالم آخر.
عالم معتم،
لكنّه ليس ساكناً؛ كان يعجّ بالخوف. رأت في ذلك الظلام وجهاً تعرفه: وجه حياة، يبتسم لها كما كانت تفعل وهي تتحدّث عن شهيتها التي بدأت تعود، وعن رغبتها في الحياة رغم قساوتها، حاولت إيفا أن تمدّ يدها نحوها، لكن المسافة كانت تتسع، وتزداد برودة بينهما. سمعت صوتاً خافتاً، يشبه الهمس:
” لماذا تركتِني؟”
كانت تلك اللحظة أقسى من كل ما اختبرته في حياتها. لم يكن السؤال حقيقياً، لكنها شعرت كأن ضميرها هو من ينطق به.
وفي الخارج،
كان الهرج ينتشر كدخانٍ كثيف في الممرات. أفراد الأمن توافدوا متأخرين، قلقهم مضاعف لأنّ المكان الذي وُصف دائماً بأنه “محمي” انكشف على حين غرّة. أحد الأطباء، شاحب الوجه، تمتم:
“كيف يدخل مسلّح هنا؟ … كيف؟”
لكن لا أحد يمتلك الجواب، السؤال بدا أكبر من مجرد خرق أمني؛ بدا كأنه سؤال عن زمن بأكمله، زمن صار فيه الموت أجرأ من الحياة.
بدأت ملامح إيفا تستعيد لونها شيئاً فشيئاً، بعد ان كثف زملاءها من الفريق الطبي عملهم على إنعاشها. ارتجفت جفونها أولاً، ثم تحركت شفتيها بحركة بالكاد تُرى. وعندما فُتحت عيناها أخيراً، لم تر سوى السقف الأبيض، وهو يسبح أمامها بلا تركيز. احتاجت ثوانٍ لتتذكر أين هي، ولتجتاحها الحقيقة من جديد كصفعة باردة.
أخذت نفساً مرتجفاً، ثم تمتمت بصوت مبحوح:
“حياة… أين هي؟”
كان السؤال كجمرٍ على لسانها. وحين لم يجبها أحد مباشرة، أدركت، قبل أن تسمع الكلمات، أن الجرح الذي انفتح في روحها لن يندمل سريعاً. لكنها، رغم ذلك، أغمضت عينيها قليلاً، وكأنها تستجمع ما تبقى من قوتها، قوة ستحتاجها لتقف مرة أخرى في هذا المكان…
مكان وُجد ليحمي الحياة،
لا
ليشيّعها.