الحرزـ (5)

الحرزـ (5)

اللوحة: الفنان الروسي إل ليسيتزكي

سعاد الراعي

الفصل السابع من رواية تحت الطبع للكاتبة سعاد الراعي

مدّت إيفا يدها المرتجفة إلى جيب مئزرها الأبيض، ذلك الجيب الذي صار في الأيام الأخيرة

أثقل

من

قلبها

نفسه.

كانت تبحث عن الحرز، ذلك الكيس الجلدي الصغير الذي تركته حياة بين يديها في آخر ليلة مضاءة بالأمل، وأوصتها به وصيّة تشبه الرجاء أكثر مما تشبه التوديع. قالت لها يومها، بابتسامة تُخفي قلقاً عميقاً:
إذا متُّ يا إيفا… فهو لكِ. لا ترميه، أرجوكِ، فهذا… عمري.”

تذكّرت إيفا العبارة كما لو أنّها تُقال لها الآن، بنفس النبرة التي كانت تجمع عتبات العمر كله في صوت فتاة تحلم بغدٍ لم يمهلها القدر الوصول إليه. 
وحين قبضت أصابعها على الحرز داخل الجيب، شعرت وكأنّ حرارة حياة تتدفّق منه، حرارة جسدٍ غادر، لكن أثره ما زال يسكن الأشياء
.

أخرجته ببطء… ببطء يشبه انحناءة شخصٍ يلتقط بقايا قلبه من الأرض. 
ما إن رأته حتى انهمرت الدموع من عينيها؛ دموع خفيفة في البداية، ثم ثقلت كأنها تنزل من عمق الروح لا من محض جفنٍ مثقل بالسهر والتفجع.

رفعته إلى شفتيها، وقبّلته قبلة من يحمل في يده آخر أثر لإنسانٍ لم يكتمل وداعه، وكأنها في تلك القبلة تعيد لروح حياة شيئاً من السلام الذي لم تجده في يومها الأخير.

همست وهي ممسكة بالحرز بين كفيها:
“رجوتني أن أحتفظ به، ووعدتكِ ألا يضيع… وها أنا أُجدّد العهد، يا صغيرتي”.

راودها فضولٌ عميق أن تفكّه، أن ترى ما الذي اعتبرته حياة عمرها كله، ما الذي كانت تخاف ضياعه أكثر من خوفها من موتها نفسها.
 لكن حين حاولت أن تفك العقدة الصغيرة، تسلّلت رعشة عبر أصابعها، رعشة لم تكن برداً ولا انفعالاً، بل كانت شيئاً آخر… 
شيئاً يشبه خشية مواجهة حقيقة لم تستعد لها بعد
.
تراجعت، وأغلقت كفها عليه من جديد، كمن يصدّ ظلّاً يقترب. قالت لنفسها:
“ليس الآن… ليس وأنا بهذا الاضطراب”.

ظل الحرز يشغل بالها أياماً كاملة. كلّما حاولت التركيز في عملها، تسلل طيفه إلى ذهنها، يذكّرها بأن جزءاً من حياة ما يزال ينتظر أن يُكشَف عنه النقاب.
 وفي الليالي التي لم تستطع فيها النوم، كانت تستعيد اللحظات الأخيرة التي جمعتها بالفتاة: ضحكتها الخافتة، خوفها المكتوم، والأسئلة التي لم تجرؤ أي منهما على طرحها
.

ومع ذلك، بقي الحرز مغلقاً. بقي سرّاً يتحرك معها في كل خطوة، كلما تسلّلت إليه يدها تبحث عن طمأنينة، زاد وجيب قلبها اضطراباً.

كان موعد إجازتها السنوية يقترب، تلك الإجازة التي وعدت عائلتها في السويد بها، ووعدت نفسها بأنها ستكون فرصة لالتقاط أنفاسٍ أثقلتها سنة كاملة من العمل في المستشفى، بين رائحة المعقمات وصوت الأجهزة وصدى الأرواح التي تعبر نحو المجهول في بلد تأكله الحرب والفوضى.
لكنها كانت تعرف في أعماقها أن هذه الإجازة، إن ذهبت، لن تُقضى كما تخيّلت. ثقل الحرز وحده كان كفيلاً بأن يسافر معها أكثر من حقائبها.

وقفت في غرفتها الصغيرة بالمستشفى، قبل ساعات من مغادرتها، تنظر إلى الحرز وكأنه مخلوق صغير يتوسّد كفّها ويطلب منها اليقين. 
شعرت للحظة أنّ حياة تقف خلفها، كما كانت تفعل حين تستجدي منها وعداً بأن تبقى قربها حتى تستعيد عافيتها
.
همست إيفا، بمزيج من لوعة وحنان:
“سآخذك يا حياة… سآخذك إلى بيتي. ستسافرين معي”.

ولم يكن القرار بسيطاً؛ كان أشبه بمصالحة مع وجعها. شعرت، لأول مرة منذ رحيل حياة، بنبرة دفء تتسرّب إلى صدرها: 
إحساس بأنّ حمل أثرها معها ربما يمنحها القدرة على مواجهة الغياب، لا الهرب منه
.

وضعت الحرز في حقيبتها بعناية، كما لو كانت تضع طفلاً لا يريد أن يصحو.
 ثم جلست على حافة السرير، تستمع إلى السكون الثقيل الذي يسبق الوداع.
 كانت تعرف أنّ الرحلة لن تكون هروباً، بل بحثاً عن معنى لهذا الخيط الذي ربط بين حياتين” حياة انتهت، وأخرى، تبحث عن سبب يجعلها تمضي قُدُماً
.

أغمضت عينيها للحظة طويلة
ورأت حياة تبتسم من جديد.

هذه المرة، لم تبكِ.
هذه المرة، ابتسمت لها أيضاً.

يتبع


الحرزـ (4)

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.