الصورة:الفنان علي رشيد أمام إحدى لوحاته
صالح الرزوق

سنحت لي الفرصة لمشاهدة آخر لوحات الفنان العراقي المغترب علي رشيد. والغربة في هذا السياق ليست بمعنى البعاد، ولكنها تحمل أكثر من هم واحد وفي مقدمتها الانفصال عن الأوضاع الراهنة واللجوء لمتاهات الداخل. وهي متاهة رؤيوية، بمعنى أنها توسع مجال المنظور بالتصورات والأفكار. ولم تبتعد هذه اللوحات عن مفرداته السابقة. فقد اقترنت الصور – التي يحب أن يسميها بورتريهات – بالشعر. ومثلما هي مفرداته في الرسم وجيزة، ويختصرها بعدد محدود من الخطوط، المتوازية والمتقاطعة، كذلك هي ألوانه، لكل لوحة لون واحد فقط، أزرق أو بني أو رمادي، وهو ما ينطبق على القصائد المرافقة. فهي بحجم قصة الست كلمات (التي عبد طريقها الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي)، أو أنها بحجم قصائد الهايكو (وإن اختلفت معها بالبنية لكنها تحتفظ بنفس الاتجاه وتعتمد على المفارقة). ويلاحظ أنه يغلب على مفردات قصائد ولوحات علي رشيد الحيرة والحزن مع شيء غير قليل من المازوشية، ولا سيما لاهتمامه بأشكال العذاب والألم الذي يعترض سبيلنا في هذه الحياة.
ولكن لا أعتقد أن هذا الاتجاه هو خاتمة المطاف، لأنه في كل لوحة يرسم دائرة صغيرة، ويضعها في خلف المشهد الأساسي كمن يشير لاحتمال غامض لا يزال قيد التشكل. وهذا دليل على مخاض نفسي يمر به، فدوائره تذكرنا بغيوم الصيف، وهي موجودة وعاطلة عن العمل، وتختزن في داخلها شيئا غير قليل من المعاني والإيحاءات. وأعتقد أنها رديف لوعيه الباطن أو تجسيد له، إن لم تكن إنذارا بشيء يشعر به ولا يراه. ويوجد في أرشيف علي رشيد عدة منعطفات، غير أن الخط الزمني – timeline يأتي نتيجة تضافر عدة عوامل أهمها المكان والثقافة. فاللوحات التي أنتجها خلال دراسته للفنون الجميلة في إنكلترا كانت أقرب للتكوينات البشرية حينما تكون بحالة مواجهة مع نفسها. وأستطيع أن أسجل فيها لونين أساسيين هما الأبيض والأسود. وذلك برأيي نتيجة مباشرة لتغلغل الثقافة الأنغلوساكسونية في برنامجه الأكاديمي. والإنكليز بشكل عام يميلون للوضوح ولتسمية الأشياء بمسمياتها. وحتى الآن يندر أن تجد في غاليري لندن الكائن في ساحة الطرف الأغر أي لوحة سريالية. ومعظم المعروضات تمثل عصر النهضة والتنوير. ولكن هذا لا يمنع أن خطوطه قلقة ويغلفها الضباب، وتشير إلى مساحة واسعة من الشك. وإذا عزلت الخط عن سياقه لا يصعب أن تلاحظ تأثيرات لأقواس هنري مور وخطوط فان كوخ. أما موضوعاتها فهي موزعة بين جبهتين. الهوية والذاكرة (بقايا ورواسب حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، ومقتل أخيه في تلك الحرب). ثم صراع – أو الأدق جدل – الحضارات، بين الشرق والغرب.
أما لوحات المرحلة التالية – وهي حصيلة عمله في هولندا – فتعبر عن تشابه الطبيعة وهدوء واستقرار الحالة الاجتماعية. ولذلك حافظت على أكبر قدر من التقشف في الخط والتلوين. ويضاف لها الكولاجات. وأهم مفرداتها الوعي الجريح، وتكاثر الذات. وأجزم أن مفهومه للكثير لا يختلف عن مفهومه للواحد لأنه عرضة للقسمة والانكسار، وغالبا يكون مشوها على غرار “غورنيكا” بيكاسو، ويبدو بشكل أنقاض وأشلاء لحياة سابقة.
تبقى آخر مرحلة – وهي فترة إقامته في إسبانيا – وتنتمي لها لوحاته الراهنة. ومع أن خطوطها استمرارية لما سبق، وتخلو من أي نوع من التكوينات، وتكتفي بالإبهام والتردد، وتضعنا وسط احتمالات ليس لها تأويل، لكنها لا تعبر عن القسوة والعنف ووحشية الأنظمة والدول الكبيرة كما يعتقد بعض النقاد. وقل أن يسجل علي رشيد ذلك في أعماله. وبرأيي هي بداية لمرحلة من التفاهم مع الأوهام والوساوس. يضاف لذلك اهتمامه بالفانتازيا الوجودية المعاصرة. فالألوان ليست كثيفة، ومشرقة قليلا، وتنقل إحساسنا بطبيعة مشمسة ودافئة. كما أنها تحترق بدون لهب. وتخلو من الرماد الذي خيم على جميع أعماله القديمة بين 1990 – 2015.
ولكن هناك خيط واحد يربط المراحل الثلاثة، وهو غياب الذاكرة الاجتماعية وحضور الذاكرة الفنية. فاللوحات تكرر بعض الخطوط، مع انزياحات تعبر عن تأثير البيئة والحالة النفسية، بدون أن تحول ذلك إلى وعي بالهوية أو الدولة. فهوية علي رشيد وجودية وإنسانية عامة. حتى أن لوحات انتفاضة آذار في العراق يمكن أن تكون عن انتفاضة الفلسطينيين في الضفة أو عن ثورة الطلاب في باريس. فالمفردات تعبر عن الاحتجاج على الظرف البشري، وتخلو من أي علامة محلية. ومهما نقبت فيها لن تجد ولو إشارة واحدة لمئذنة أو خيمة أو حقل. والطبيعة تخلو من الماء الملوث والمحاصيل المصابة بالأوبئة والذبول – بسبب الإهمال والفتن المتتالية. ولذلك أجزم أن فلسفة علي رشيد كونية، وأن همه أممي، بدون إيديولوجيا أو سياسة، باستثناء إيديولوجيا وسياسة الإنسان المثقف الذي يتعايش مع ألمه وعذاباته ووعيه الشقي. وربما هذه ترجمة موازية لمفهوم إدوارد سعيد عن النخبة أو الطليعة المثقفة، فهم برأيه ملزمون بالتعايش مع حالة من الألم الوجودي، لا بوصفه ترفا فكريا، بل كنتيجة مباشرة للالتزام والإحساس بالمسؤولية.*
* انظر: صور المثقف لإدوارد سعيد. ترجمة غسان غصن. دار النهار. بيروت. 1996.