نجومٌ فوق ركام المدينة

نجومٌ فوق ركام المدينة

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنانة الفلسطينية ندى الخطيب

في بلادٍ تتزاحم فيها أصواتُ المدافعِ مع أنينِ الرياح، تولدُ الحكاياتُ على أطرافِ الألم. هناك، حيث تختلطُ رائحةُ الترابِ بالغيم، وتغدو الدموعُ ماءً يروي الأرض، تشرقُ حياةٌ صغيرة على الرغم من الخراب؛ حياةٌ تُصرّ على أن تنبتَ من قلبِ الحزنِ زهرةً مضيئة، تُقاوم الليلَ الطويل بضوءِ الأمل.

جلست أميرةُ على حافةِ الشرفة، والمدينةُ من حولها تموجُ بصمتٍ ميت. لم يكن أحدٌ يسأل عن وجودها، ولم يكن أحدٌ يرى النساءَ اللاتي يتحمّلن العالم وحدهن. فقدت زوجها في معركةٍ دامية، لكنه سكن قلبَها، دمَها، وكلَّ حركةٍ صغيرة تقوم بها. ذلك اليوم الذي حملت فيه خبرَ وفاته، شعرتْ وكأن السماءَ انشقّت فوقها. في ذلك الصمت الغريب، علمتْ أن العالم لم يعد ملكًا لها، وأن عليها أن تصنع ملكوتًا جديدًا لصغارها الأربعة الذين أصبحوا فجأةً كلَّ وجودها.

حملت أطفالها في حضنها، كلُّ واحدٍ منهم قطعةٌ من قلبها الممزّق. كانت الأصغرُ، ريم، تختبئ خلف شعرها، وكأنها تحاول العودةَ إلى دفءِ رحمها. أما خالد، الابنُ الأكبر، فحاول أن يُظهر القوة، لكنه كان يحمل نظرةَ الرجلِ الصغيرِ الذي لم ينضج بعد. ثم يوسف ولينا، يحمل كلٌّ منهما صمتًا خاصًا، صمتًا يشبهُ الغيومَ السوداء المتجمّعة فوق المدينة.

بدأت أميرة تمشي بهم في الأزقّة المحطّمة، بين البيوت التي انهار نصفها، والأسواق الخالية إلا من ذكريات الباعة والأطفال الضائعين. كانت خطواتُهم الثقيلة مثل طقوسٍ قديمة، طقوسِ تحدٍّ للعالم الذي حاول أن يسحقهم قبل أن يولدوا. في كل زاوية، كانت ترى آثارَ الحرب: جدرانًا أُخويت أثرَ ثقوبِ الرصاص، أبوابًا بلا مفاتيح، وأرضًا متكسّرة تحت أقدامها، وكأن الأرض نفسها تتألم من كثرة الصراخ والدموع.

لم تذرف أميرة دمعةً أمام أطفالها، لكنها كانت تبكي في صمت الليل، تحت ضوء القمر المسلَّطِ شعاعُه الخافت على أوراق الأشجار الميتة. كلُّ دمعة كانت كقطرة ماءٍ تهبط على صحراءِ الروح، محاولةً أن تُنبت شيئًا من الحياة في مكان الموت. كانت تحكي لهم عن والدهم، ولكن ليس بالكلمات المباشرة، بل بالرموز والحكايات: عن فارسٍ ذهب ليحمي مملكته، عن شجرةٍ عظيمةٍ سقطت أغصانها لكنها تركت بذورًا. كل قصة كانت درسًا، وكل درسٍ سلاحًا ضد اليأس.

في الأيام الأولى، كان الطعام شحيحًا، والماء قليلًا، والبرد يثقب العظام. لكنها علمت أطفالها أن القوة لا تأتي من الملذات، بل من الصبر على الجوع والبرد والخوف. علمتهم أن كل لحظةٍ صعبة هي اختبار، وأن كل دمعة تُسكب على الأرض تعطيها القدرة على الزرع مستقبلًا.

ومع مرور الأيام، بدأت أميرة ترى في وجوه أطفالها شعلةً لا تنطفئ، نورًا صغيرًا يرفض أن يختفي رغم خراب المدينة. تلك الشعلة كانت تذكّرها بأن حياتها لم تنتهِ بعد، وأن عليها أن تكون مثل الشمس، تمنحهم الدفء والنور حتى لو كانت هي نفسها غارقة في الظل. كانت تمشي معهم في الأزقة، تلمس كل حجر وكل جدار، كأنها تقول للمدينة: «أنا هنا… أنا أرفض أن أختفي».

مرّت الأشهر، وتغيّرت المدينة كما تتغيّر القلوب بعد الصدمات. الحرب لم تتوقف، بل ازدادت ضراوة، تجلب معها أصوات القذائف والرشاشات، وتترك وراءها دخانًا يملأ السماء، وكأنها تعتقد أن كل شيء يمكن أن يُمحى. كانت أميرة تمشي بين الركام مع أطفالها، كل خطوةٍ تخطوها دعوةً سرّية للبقاء. كانت تعلم أن الخوف يراقبهم، لكنه لن يكون سيدهم.

خالد، الابن الأكبر، بدأ يحمل عبءَ الرجل الذي لم يحن أوانه بعد. صار يلاحظ الوجوه الباهتة، الجدران المكسّرة، البيوت بلا أبواب، والأشجار التي فقدت أغصانها. لكنه كان يجد في حضن أمه أمانه الوحيد، وفي كلماتها حكايةَ الأب الذي رحل. علمته أميرة أن القوة ليست في رفع السلاح، بل في رفع الرأس رغم الظلام.

ريم الصغيرة لم تفهم الحرب، لكنها شعرت ببرودة الليل وصرخات المدينة، فتختبئ خلف شعر أمها، تتشبث به كما تتشبث الحياة بالغيم قبل المطر. أما يوسف ولينا، فقد بدأا يسألان عن مستقبلهم، عن أبيهم، عن المكان الآمِن. كانت أميرة تجيب بالرموز، بالقصص التي تخفي بين طياتها الإجابات دون أن تُقال:

«الأمل يا يوسف مثل البذرة… لا تراه الآن، لكنه ينمو تحت التراب.»

«وأبوكم… ترك لنا مسؤولية الضوء، وسنضيء الطريق معًا.»

كانت الأيام قاسية، تضيف طبقةً جديدة من الصبر في قلب الأم وأطفالها. ينامون على أرضٍ باردة أحيانًا، ويأكلون ما توفر أحيانًا أخرى. لكنها كانت تحوّل كل صعوبةٍ إلى درس، وكل خوفٍ إلى قوة. تعلمهم المشي بثبات، مراقبة الريح، الاستماع لصوت الأقدام، وفهم لغة المدينة بعد الخراب.

وفي إحدى الليالي، جلست أميرة مع أطفالها على سطح البيت المتصدّع، تنظر إلى النجوم المتلألئة رغم الغيم والدخان، وقالت:

«حتى في الظلام… هناك نجوم. وكل نورٍ صغير يمكن أن يكبر، إذا آمنتم به.»

كبر الأطفال شيئًا فشيئًا. صار خالد شابًا قويًا، يحمل روح والده من خلال أمه. يوسف يكتب حكايات المدينة، يحوّل الألم إلى قصص، والدمار إلى رموز للنجاة. أما لينا وريم، فتعلمتا أن الحياة لا تعطي شيئًا مجانًا؛ صارتا تعرفان كيف تُزرَع زهرةٌ في أصيص صغير وسط الخراب.

وفي المساء الأخير، جلست أميرة على شرفة بيتهم القديم. المدينة تتنفّس رغم الندوب. نظرت إلى أولادها، رأت في أعينهم انعكاس كل ما زرعته: الشجاعة، الصبر، حبّ الحياة. ابتسمت، وكأن ابتسامتها الشمسُ الخارجة من وراء الغيم.

همست لهم:

«أنتم نور المستقبل… أنتم الزهور التي ستزهر بعد كل عاصفة.»

وغابت الشمس خلف الأفق، وبقي نور الأطفال يتلألأ كنجوم صغيرة فوق الطريق الطويل؛ طريقٍ تقول حكايتُه إن الحياة يمكن أن تزهر حتى بعد أكثر الليالي ظلمة، وأن الإرادة تحوّل كلَّ ظلالٍ إلى ضوء، وكل خسارةٍ إلى بدايةٍ جديدة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.