الزهرة الأخيرة

الزهرة الأخيرة

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان السوري بسام الحجلي

كانت تجلسُ على الكرسيّ بقدرِ ما كانت تستندُ إلى شيءٍ آخر… شيءٍ لا يراه سواها، وكأن الغرفة صارت أضيق منذ رحيله، وأوسع كلّما مرّ طيفه من جديد. وضعت رأسها إلى الخلف قليلًا، ثم أغمضت عينيها. كان يكفي أن تغمضهما كي يقترب.

ظهر أوّلًا كخطٍّ رقيق، كقلمِ رصاصٍ خجولٍ يرسم رجلاً يُحاول الخروج من الورق. ملامحه تتكوّن ببطء، كتفاه تتدرّجان من ضوءٍ باهت، وصوته ـــ ذاك الذي غاب منذ شهور ـــ يعود همسًا يلامس جبهتها.

لم ترتعد؛ لقد تعلّمت أن الأشباح التي نحبّها لا تُخيف.

قالت في سرّها: «عُدتَ؟» ولم يجب، لكنّه انحنى عليها كما كان يفعل كلّما شعر بالانكسار، تبقى هي وحدها نقطة ارتكازه.

تذكّرت آخر لحظة جمعتهما: باقة الزهور ذاتها، الكلمات ذاتها التي تحتفظ بها، والباب الذي أغلقه خلفه ولم يفتحه من جديد. كلّ شيءٍ منذ ذلك اليوم صار يحتاج إليه؛ حتى الهواء احتاج إلى لقائه كي يدخل صدرها.

لكنّ اليوم بدا مختلفًا… فالخطوط التي في ذهنها أصبحت أوضح، تكاد تُكمل وجهه، تكاد تُعيد نبضه.

مدّ يده ـــ يدٌ ليست حقيقية ولكنّها أكثر صدقًا من أيّ شيء ـــ وأراحها على كتفها. شعرت بدفءٍ غريبٍ غير منطقي، لكنه موجود.

قالت بصوتٍ خافت: «إن كنتَ طيفًا… فابقَ. وإن كنتَ عائدًا… فقُل لي كيف.»

رفرفَ الضوء حوله لحظة، وانطفأ نصفه، كأنّ العودة مُكلفة. ثم سمعتَه أخيرًا، صوتًا خفيفًا كاهتزاز ورقة: «لستُ طيفًا… لكنّ الطريق لم يكتمل بعد.»

شهقت. اتّسعت عيناها. لم تكن تنتظر جوابًا بهذا القرب من الحياة. حاولت لمس يده، لكن أصابعها مرّت من خلاله مثل نسمةٍ تخترق المطر.

قال لها: «احتفظي بهذه الزهور. عندما تذبل آخر واحدة، سأكون إمّا هنا… أو لن أعود أبدًا.»

ثم بدأ يتلاشى، ليس فجأةً، بل كما ينطفئ صوتُ أغنيةٍ في نهاية شريطٍ قديم: ببطء، بثقة، ومن دون اعتذار.

بقيت وحدها، تنظر إلى الباقة الملوّنة في حضنها، وتحصي في قلبها عدد الأزهار وعدد الأيام. كانت تعرف أن الشوق ليس في ظهوره… بل في الموعد الذي حدّده:

ذبلتُ ـــ أو عُدتُ.

وبين هذين الاحتمالين، بدأت حياتها أخيرًا تتحرّك.

لا يزال الصباح مشعًّا، والزهور الموضوعة في المزهرية تشبه وجوهًا تنتظر إعلان النتيجة. اقتربت منها، مرّرت أصابعها على إحدى البتلات، فارتجفت كأنها كائنٌ يمتلك ذاكرة.

قالت وهي تُصغي للفراغ: «واحدة لم تذبُل بعد… ما زال الوقت حيًّا.»

في الليل، عادت إلى الكرسيّ ذاته. لم تكن تريد استحضاره، لكنّها تعلّمت أن الغياب أحيانًا هو من يستحضرنا. أغمضت عينيها قليلًا… وهذه المرّة لم يأتِ خطًا رقيقًا، بل جسده يسبق ملامحه، كأن الطريق الذي قال إنه لم يكتمل بدأ يتّسع.

ظهر على بُعد خطوة. نصفه واضح، ونصفه الآخر ينساب كدخانٍ يتردّد في اتخاذ شكل جسد. قال دون صوت: «أبطأتُ… لأنّي لم أعد أعرف أيَّنا يحتاج الآخر أكثر.»

همست: «وأنا… لم أعد أعرف إن كنتَ تعود من أجلي أم من أجل شيءٍ تركتَه خلفك.»

اقترب، ورغم أن الهواء ظلّ يمرّ من خلاله، شعرت هذه المرّة بثقلٍ خفيفٍ على يدها، كأنّ جزءًا صغيرًا منه تحوّل إلى مادّة.

قال لها: «الطريق يكتمل عندما تتخلّين عن شيء… لا عندما أنتظر أن يُفتح بابٌ من تلقائه.»

سألته، وعيناها تبحثان عن صدقٍ غير مشبوب بالضباب: «وماذا أترك؟ الزهور؟ الذكرى؟ أم فكرة أني كنتُ نقطة ارتكازك؟»

لم يجب فورًا. خياله اهتزّ، ثم استقرّ قرب النافذة التي لم تُفتح منذ رحيله. مدّ إصبعه نحوها، لمست أنامله زجاجها المغلق.

«اتركي الباب الذي أغلقتُه أنا… وافتحي بابًا آخر أنتِ.»

شهقت ثانيةً، لكن هذه المرّة لم يكن خوفًا ولا دهشة… بل شعورًا بأن شيئًا يُعاد يحضر في صدرها، مثل مدينة تُبنى من حطامها.

سألته: «وهل تعود حينها؟»

قال: «سأعود إن كنتُ أنا الطريق… لا نهايته.»

ثم بدأ يتلاشى من جديد، لكنّ صوته بقي أطول من خطواته هذه المرّة: «لا تُعدّي الأزهار… عُدّي خطواتك.» وحين اختفى كلّه، نهضت لأوّل مرّة دون أن تستند إلى الكرسيّ أو إلى ما تراه وحدها. اقتربت من النافذة وفتحتها. الهواء اندفع كصفحةٍ جديدة.

التفتت نحو الباقة. زهرة واحدة فقط انحنت، كأنها تستمع معها.

قالت وهي تلمس البتلة برفق: «ليكن… فلن أعدّ النهاية هذه المرّة.»

وفي مكانٍ بعيدٍ لا يُرى، تباطأت خطواتُ جسده الذي كان يتّجه للرحيل… ثم التفت.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.