مُفكِّرة؟ وهل يُسمَح لها أن تكون؟

مُفكِّرة؟ وهل يُسمَح لها أن تكون؟

اللوحة: الفنانة الإسبانية ريميديوس فارو

د. سيما حقيقي

“الفكر خيطٌ رقيقٌ خفي، نمدّه نحو حافة المجهول… لنحرّك به سكون الغياب، ونوقظ الأسئلة النائمة في عمق الحياة، فنُعيد رسم ملامح العالم، باتساع رؤيتنا.”

هكذا أفهم الفكر…

ليس بصفته مجرّد تراكم قراءات، أو زخرفة لغوية، أو استعراضًا معرفيًّا متعالٍ، بل كوميض داخلي يوقظ الوعي من سباته، ويمنحنا شجاعة السؤال قبل جرأة الجواب.

ومع ذلك، كلما قرأتُ عن المفكرين العرب، أو استمعتُ إلى نقاشات الفكر والتحوّلات، أجد قائمة الأسماء… ذكورية بامتياز.

تغيب “المفكّرة” عن المشهد، أو تُحشر في زوايا لا تليق بوهج الرؤية التي ربما كانت تملكها.

فهل حقًا لا يوجد مفكرات عربيات؟ أم أن الفكر حين يسكن امرأة… يُساء فهمه؟ أم أن المرأة ذاتها، في مجتمعاتنا، لم تَمنح نفسها بعدُ إذن التفكير بصوتٍ مرتفع؟

لماذا لا نقول عن امرأة: إنها “مفكّرة”؟ بينما لا نتردّد في وصفها بكاتبة، شاعرة، أديبة، فنانة، أو حتى عالمة ومهندسة؟

هل الفكر يُقاس بالجنس؟ أم أن هناك خللًا أعمق في نظرتنا المجتمعية، وفي جرأة النساء على التجرّد من جلباب الفكر الذكوري المستعار؟

دعونا نبدأ من تعريف المفكر… ثم نُلقي نظرة على المشهد كاملاً.

ليس كل من قرأ كثيرًا… مفكّرًا، ولا كل من كتب مقالًا لامعًا أو قدّم رأيًا جريئًا يُدعى مفكرًا.

المفكر هو من يرى ما لا يُرى، ويطرح ما لا يُقال، من يُنصت لما بين السطور، ويشكّل من صمته سؤالًا،

ويصوغ من الدهشة نافذةً على فهمٍ جديد.

هو من لا يكتفي بالاقتناع، بل يفتّش خلف المسلّمات، ويعيد مساءلة العاديّ، ويكشف زيف المعتاد. ليس لإثارة الجدل، ولكن لأن عقله لا يعرف الركون إلى ما قيل فقط… بل يسعى لكشف ما يمكن أن يُقال.

المفكر لا ينتمي إلى معسكر، بل يصنع خيمته في العراء، بين العقل والحدس، بين المعرفة والشك. يُضيء طريقه بوعيٍ متجدّد، ويُحرّك السكون بالفكرة، كما يتحرك النور حين يلامس عتمةً سكنت طويلًا.

فهل هذا المعنى يخص الرجل فقط؟ أم أن المرأة قادرة على أن تُفكر، لا لتُقنع… بل لتُبصر؟

في العالم العربي، حين يبدأ الرجل بالتفكير بصوت عالٍ، يُنظر إليه كصاحب مشروع فكري، أو “رؤية” تستحق التأمّل. يُمنح وقتًا، ومنبرًا، وفرصة لشرح ما يريد.

أما المرأة، فإن فكّرت بصوتٍ مغاير، أو تجرّأت على مساءلة الأعراف، سُئلت عن نواياها قبل أفكارها، وعن حدودها قبل رؤيتها، وعن ولائها قبل منطقها.

تُؤوَّل عباراتها، ويُفسَّر صمتها، ويُخشى من تأثيرها، وكأنها تُزعزع توازنًا هشًّا لا يحتمل أن تُفكّر امرأة خارج السرب.

ليست المشكلة في فكر المرأة، بل في موقعها حين تُفكر. فهي ليست “مخوّلة”، بحسب العُرف غير المعلن، أن تتناول القضايا الكبرى، أو أن تطرح فلسفة جديدة للوجود، دون أن تُحاصَر بأسئلة المجتمع:

هل ما تقوله يناسب “أنوثتها”؟

هل تعدّت دورها؟

هل تُعارض الثوابت؟

هل تخلّت عن دورها الطبيعي كزوجة وأم؟

وهكذا… بدل أن يُصغى لفكرها، يُصغى لصوت ارتياب المجتمع منها.

تُدعى “مبالغة”، أو “معقّدة”، أو “مشغولة بأمور أكبر منها”.

فتتراجع كثيرات، ليس لأن الفكر لا يسكنهن، بل لأن مناخ السؤال في مجتمعاتنا لا يتّسع لامرأة تطرح… قبل أن تبرّر.

حين يكتب الرجل فكرةً حادّة، أو يطرح منظورًا مختلفًا، يُستقبل غالبًا باحترام:

“لديه منطق”،

“زاوية جديدة تستحق التفكير”،

“صاحب رؤية تتجاوز السائد”.

أما حين تكتب المرأة ذات الفكرة… أو ربما أعمق، فغالبًا ما يُنظر إليها من زاوية أخرى:

“تحاول لفت الانتباه”، “تتمرد”، “تشوّش على الثوابت”، أو ببساطة: “تُفكّر أكثر من اللازم.”

تُغلف أفكار الرجل بلباس “الفلسفة”، وتُغلّف أفكار المرأة بتهمة “الجدل”.

الرجل حين يضع تساؤلاته على الورق يُعتبر “منشغلاً بالمعنى”، أما المرأة، فيُتّهم قلبها قبل عقلها، وكأن الفكر لا ينبض إلا في صدور الرجال!

وحتى في حالة التبنّي المؤقت لأفكارها، نادراً ما يُقال عنها “مفكّرة”… بل “كاتبة جريئة”، أو “صاحبة آراء لافتة”، وكأن المفكر لقب أكبر من أن يليق بأنثى.

الجواب ليس بسيطًا، لأن الغياب يحمل أبعادًا متشابكة.

فمن جهة، لا يزال الفكر في مجتمعاتنا يُقدَّم في عباءة الذكورة، ويُربَط بالسلطة، والهيمنة، والصوت الأعلى، بينما تُربّى الفتاة غالبًا على الحذر، الطاعة، والحفاظ على “الصورة”.

ومن جهة أخرى، كثيرات يملكن فكرًا عميقًا، وتأملًا واسعًا، لكنهن يُخفينه… خوفًا من العزلة، أو النقد، أو أن يُساء فهمهن.

فالفكر حين يُعبّر عن رؤية مستقلة قد يخلق خصومًا، والمرأة تُربّى غالبًا على تجنّب الصدام لا مواجهته.

وفي هذا السياق، لا يمكن أن نتجاهل أيضًا أولئك المفكرين من الرجال في العالم العربي، الذين لم ينحصروا في إطار أكاديمي تقليدي، بل مزجوا التأمل بالإنسان، واللغة بالروح. جبران خليل جبران، مثلًا، لم يكن مجرد شاعر أو أديب، بل كان صاحب مشروع إنسانيّ واسع المدى، جمع فيه الشرق بالحكمة والغرب بالحلم، ورأى الإنسان من زاوية الروح لا من موقعه الاجتماعي. مصطفى محمود، المفكر المتأمل، انتقل من الشكّ إلى اليقين في مسار ناضج وشجاع، مقدّمًا لنا كتبًا حفرت عميقًا في الوعي الشعبي. أما الدكتور أحمد الكيلاني، فيسعى في مشروعه اللغوي إلى استنطاق النصّ القرآني من زاوية البلاغة والفهم العميق للغة، خارج التقليد الجامد، ليصوغ رؤية عقلانية تربط النص بالحياة لا بالحرف وحده.

كما كان للفكر الغربي النسائي أثرٌ لا يُمكن التغاضي عنه، ليس بوصفه معارضًا لهيمنة الذكور فقط، بل بوصفه مصدرًا لتوسيع معنى “الإنسان” في الفكر ذاته. فرجينيا وولف، بكلماتها العميقة، لم تنادِ فقط بـ”غرفة تخصها وحدها”، بل بفكر يخصّها وحدها، طريقة في الرؤية والتأمل تعيد الاعتبار لخصوصية التجربة الأنثوية. سيمون دي بوفوار، في كتابها “الجنس الآخر”، فتحت أفقًا وجوديًّا صادمًا عن علاقة المرأة بالسلطة والمعنى، وجعلت من الفكر أداة كشفٍ لا صراع. أما حنّة آرنت، فقد قدّمت أطروحات سياسية وفلسفية ظلت تُدرّس حتى اليوم، لأنها طرحت تساؤلات جذرية عن الحرية والشرّ والمسؤولية الأخلاقية، من موقع الشاهد لا المؤرّخ فقط.

وبالمقابل، نرى في مجتمعاتنا العربية بعض النساء يهربن من لقب “مفكّرة” إلى لقب “أديبة” أو “شاعرة”، لأنه أقلّ إثارة للقلق الاجتماعي، وأكثر قبولًا في الخطاب العام.

كما أن غياب النماذج النسائية المضيئة يجعل الطريق أكثر غموضًا، فنادرًا ما يُسلَّط الضوء على مفكرات عربيّات، وإن وُجدن، فإما يُتجاهلن، أو يُختصرن في قضايا المرأة فقط.

الفكر النسائي في عالمنا العربي لم يكن يومًا غائبًا، بل كثيرًا ما ظهر في الخفاء، أو تمّ تغليفه بعبارات لا تفيه حقه، فلا يُقال عنها “مفكّرة”، بل “أديبة”، “ناشطة”، “مثقفة”… كأن لقب المفكر حكرٌ على الرجال فقط.

واحدة من أوائل هؤلاء كانت زينب فواز، التي طالبت بتعليم المرأة وكتبت في الإصلاح الاجتماعي، لكن حضورها اليوم خافت، لا يرد في مناهجنا ولا في مجالس الفكر، وكأن صوتها انطفأ… رغم عمقه.

وتتبعها مي زيادة، التي جمعت كبار مفكري عصرها حول طاولة الحوار، لكنها ظلّت تُقدَّم كامرأة حساسة، لا كعقلٍ يستحق التأمّل.

وملك حفني ناصف، التي كتبت في التعليم والكرامة والهوية، وكان فكرها إصلاحيًا متوازنًا، دون مصادمة… ومع ذلك أُدرجت في كتب “الرائدات” لا “المفكرين”.

وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، التي كتبت في التفسير والفكر بلغة وازنة راقية، لكنها ظلت حبيسة التصنيف الأكاديمي، ولم تُقرأ كمفكرة صاحبة مشروع معرفي واضح.

وهناك اليوم كثيرات يكتبن في الفلسفة، علم النفس، التربية، الفن، الهوية، والتأمل، لكن لا يُنظَر إليهن كمفكرات، بل كأصوات ثانوية.

الفكر الأنثوي موجود، لكنه لم يُقرأ بصفته فكرًا. والمفكّرة موجودة، لكن من حولها لا ينادونها باسمها الحقيقي.

ليس الهدف من هذا المقال أن نُطالب بمنح المرأة ألقابًا… بل أن ننتبه لما لم يُسمع منها بعد.

ليس كل صوتٍ مرتفع هو فكر، وليس كل فكرةٍ ناعمة أقل عمقًا من صخب المنابر. ربما آن للمرأة العربية ألا تكتفي بالأدب، ولا تُخفي تأملها في ظلّ عاطفتها، أن تكتب حين ينضج السؤال فيها، لأنها ترى أبعد من الشكل… وتفكر بما يعبر القلب والعقل معًا.

أن تمضي في تأملها، لأنها لا تكتفي بالإجابات الجاهزة… بل تفتش عن النبض الحقيقي خلف الأشياء. وأن تفكّر حين لا يعود في العادي ما يُرضي عقلها المتوثب… أن تتأمل، لأن صمتها لم يعد يكفي، ولأن المعنى لا يكتمل إلا حين يُروى من ضفتها.

نعم، في وطننا العربي مفكرات… لكننا لم نمنحهن المساحة، ولم نمنح أنفسنا الشجاعة لنُصغي.

الفكر ليس ميراثًا ذكوريًا، ولا لقبًا نخشى أن تلبسه امرأة. إنه فعل إنساني، وحين يسكن امرأةً شجاعة… فهو لا يُهدد التوازن، بل يُضيئه من زاوية لم تُرَ من قبل.

فلا تخشَي من السؤال، ولنمنح الفكر مساحته… مهما بدا مختلفًا.


الدكتورة سيما حقيقي فنانة تشكيلية بحرينية وشاعرة، وأول من أدخل فنّ الرسم بالشمع إلى البحرين بأسلوب معاصر. حاصلة على الدكتوراه الفخرية في الفنون من جامعة كينيدي – فرنسا، وتعرض أعمالها في معارض محلية ودولية. تنشر مقالات في الفن، وسيكولوجيا الألوان، والعلاج بالفن بأسلوب أدبي تأملي في صحف محلية وعربية وعالمية. مؤسسة مبادرة شمعة أمل البيئية والإنسانية، ولديها ثلاثة كتب وديوان شعر قيد النشر.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.