اللوحة: الفنان السوري بشير بشير
ماهر باكير دلاش

في مَسارِ الحَضارةِ الإنسانيّة، ظلّ الإنسانُ مُنشغِلًا بفِكرةِ الجَمال، باحثًا عنه في الطَّبيعةِ والوجوهِ والأصواتِ، وفي كلِّ ما يُثيرُ دهشتَهُ ويُحرّكُ ما في داخله من تَوقٍ إلى الكَمال. غير أنَّ الشِّعرَ العربي، أكثرُ الفنونِ التصاقًا بالوجدان، قد حَوَّلَ هذا البحثَ عن الجمال إلى تَجربةٍ وجوديّةٍ كاملة، تُختَبَرُ فيها الحواسُّ والعقلُ والروحُ جميعًا. فالشاعرُ العربي لم يَرَ في الجمالِ مَحضَ صُورةٍ تُوصَفُ أو مَنظَرٍ يُتَغنّى به، بل رآهُ مِرآةً للكونِ والإنسانِ والقدرِ، ومَدخلًا إلى فَهمِ ما وراءَ الظَّاهرِ من أسرارِ الوجود.
- أولًا: الجمال بوصفِهِ وعيًا كونيًّا
منذُ الجاهليّة، كانَ الشاعرُ العربي يُدركُ أنَّ الجمالَ ليسَ في الأشياءِ وحدها، بل في نظرتِه هو إليها. حين يقفُ امرؤُ القيس على الأطلال، لا يرى خَرابًا فحسب، بل يرى جمالَ الزَّوال، وبهاءَ ما غابَ في غموضِه. الجمالُ هنا ليسَ وصفًا للمكانِ بل استحضارٌ للزمنِ في لحظةٍ تُجَمِّدُ العَدمَ وتُخلِّدُ الفِقد. هذه الرؤيةُ المبكرةُ تَشي بأنَّ الجمالَ في الشِّعرِ العربي لم يكن ماديًّا بقدر ما كان وجوديًّا؛ فالجمالُ يُصبحُ أداةَ مقاومةٍ للفناء، وصيغةً من صِيَغِ البقاء في وجهِ الزوال.
إنَّ الوقوفَ على الأطلالِ لم يكن نَوحًا على المفقودِ بقدر ما هو احتفاءٌ بما يَتَبقّى من الأثر. فالشاعرُ يرى في التُّرابِ الذي تَركتهُ الحبيبةُ جمالًا لأنَّه شاهدٌ على الوجودِ الإنسانيّ. وهنا يَتَجلّى البُعدُ الفلسفيّ للجمالِ في الشعرِ العربيّ: فالجمالُ ليسَ في الحُسنِ المجرّد، بل في الأثرِ الذي يتركُهُ الوجودُ في الوجدان.
- ثانيًا: الجمال بين الحسيّ والروحيّ
حينَ انتقلَ الشعرُ العربيُّ إلى العصورِ الإسلاميّة، تغيّرت زاويةُ الرؤيةِ إلى الجمال، لكنَّه لم يفقدْ روحهُ الأولى. صار الجمالُ طريقًا إلى الله، وصارتِ القصيدةُ وسيلةَ تأمّلٍ في نظامِ الكون. فالبوصيري حين يقول:
فَهوَ الحَبيبُ الَّذي تُرجَى شَفاعَتُهُ
لِكُلِّ هَولٍ مِنَ الأهوالِ مُقتَحَمِ
فإنَّه لا يصفُ الجمالَ الحِسّيَّ بل الجمالَ النورانيَّ الذي يتجاوزُ الإدراكَ الحسيَّ إلى صفاءِ الرّوح. هنا يتحوَّل الجمالُ من موضوعٍ يُدرَكُ بالبصر، إلى حالةٍ تُدرَكُ بالبصيرة. الجمالُ يصبحُ إذًا نوعًا من الكشفِ الإشراقيّ، تُطلّ بهِ الروحُ على عالمٍ من النقاءِ والصفاء.
وفي الشعرِ الصوفيّ، يبلغُ الجمالُ ذروتَهُ المفهوميّة. فابنُ الفارض والحلّاج والنفّري يرون في الجمالِ الإلهيِّ أصلَ كلِّ جمالٍ في الوجود. فكلُّ وجهٍ جميلٍ في الدُّنيا ليسَ سوى تجلٍّ من تجليّاتِ الجمالِ المطلق. وهكذا يُصبحُ الشعرُ العربيُّ الصوفيّ مدرسةً في فلسفةِ الجمال، لا تُدركُ الحُسنَ في الظاهرِ بل في المبدأِ الأول الذي منهُ وُجِدَ الجمالُ كلّه.
- ثالثًا: الجمال بوصفه مقاومةً للقُبح والعبث
في العصورِ اللاحقة، ومعَ تَبدّلِ الأزمنةِ وسقوطِ القيمِ المثاليّة، صار الجمالُ في الشعرِ العربيّ الحديث سلاحًا في وجهِ القبحِ والعبث. فالشاعرُ، وهو يرى الخرابَ من حوله، يُصرّ على البحثِ عن جمالٍ ما، كأنّه يُمارسُ مقاومةً ضدّ التّشوّهِ العام. أدونيس حين يقول:
ليسَ للجَسدِ شكلٌ إلّا في الذاكرة،
وليسَ للذاكرةِ شكلٌ إلّا في الحلم.
فإنَّه يُعيدُ صياغةَ الجمالِ على نحوٍ رمزيّ، حيثُ يصيرُ الجمالُ حركةً ذهنيّةً وموقفًا فكريًّا. الشاعرُ لم يَعُد يبحثُ عن الجمالِ في الوردةِ، بل في فكرةِ الوردة، في رمزِها، في دلالتِها العميقة التي تُقاومُ زيفَ الواقع.
الجمالُ هنا هو احتجاجٌ على القُبح، وتذكيرٌ بأنَّ الإنسانَ قادرٌ على أن يُبدِعَ معنىً حتى في العَدم. فالشاعرُ حين يُجَمِّلُ اللغةَ، يُحاوِلُ أن يُعيدَ تشكيلَ العالم. الجمالُ في هذه اللحظةِ ليسَ ترفًا بل ضرورةً وجوديّة؛ إنّه الفعلُ الأخيرُ الذي يُثبتُ أنَّ الإنسانَ لم ينهزم بعد.
- رابعًا: الجمال كهويةٍ ثقافية
يتميّزُ الشعرُ العربيُّ بأنَّه جعلَ من الجمالِ مكوّنًا من مكوّناتِ الهُويّة. الجمالُ عند العربيّ ليسَ نقيضَ الصّرامة، بل هو توازنٌ بين الفخرِ والرّقة، بين القوةِ والنعومة، بين البداوةِ والتمدّن. فالمتنبي حين يصفُ نفسهُ أو ممدوحهُ لا يصفُ ملامحَ الجسدِ بل ملامحَ الروحِ التي تُضيءُ الجسد. الجمالُ في شعرِ المتنبي هو كبرياءُ الوجودِ لا وسامتُه، وهو إشراقُ المعنى لا بريقُ الصورة.
هذه النظرةُ جعلت من الجمالِ العربيّ مزيجًا فريدًا: لا هو جماليّةٌ حسيّةٌ خالصة، ولا هو تجريدٌ روحيٌّ كامل. إنّه جمالٌ يُعبّرُ عن الوسطِ الذي عاشَ فيه الشاعرُ: صحراءٌ قاسيةٌ لكنّها تُخفي في ليلِها سحرًا لا يُضاهى. من هنا يُمكن القول إنَّ الجمالَ العربيَّ هو جمالُ التناقضِ المتناغم، جمالُ الامتلاءِ والفراغ، جمالُ القسوةِ التي تُنبتُ في عمقها أزهارَ الدهشة.
- خامسًا: فلسفةُ الجمال في الشعر العربي
إذا حاولنا أن نُلخّصَ الرؤيةَ الفلسفيّةَ للجمالِ في الشعرِ العربيّ، لوجدناها تتأسّسُ على ثلاثةِ مبادئ أساسيّة:
1. الجمالُ بوصفِهِ كشفًا:
الشاعرُ لا يَخترعُ الجمالَ بل يكشفُه. هو موجودٌ في الكونِ مسبقًا، لكنّه يحتاجُ إلى عينٍ ترى، وإلى قلبٍ يُحسّ. فالشعرُ هو لحظةُ الكشفِ بين الإنسانِ والعالَم، حيثُ تتجلّى الحقيقةُ في هيئةِ صورةٍ شعريةٍ أو استعارةٍ.
2. الجمالُ بوصفِهِ خلاصًا:
في وجهِ القهرِ والموتِ، يجدُ الشاعرُ في الجمالِ ملاذًا. فحين يقولُ محمود درويش:
على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياة.
فإنّه يُعلنُ أنَّ الجمالَ هو مبرّرُ البقاء، وأنّ القصيدةَ قادرةٌ على أن تُعيدَ للإنسانِ توازنهُ في عالمٍ مختلّ.
3. الجمالُ بوصفِهِ تجلّيًا للمعنى:
الجمالُ في الشعرِ العربيّ ليسَ شكليًّا؛ فالكلمةُ الجميلةُ لا تكتفي بإيقاعِها بل تُشيرُ إلى ما وراءها. المعنى هو الذي يُولِّدُ الجمال، واللغةُ ليستْ إلا جسدَهُ الظاهر. لذلك كانَ الجمالُ في الشعرِ العربيّ دائمًا مُرتبطًا بالحكمةِ والرؤيةِ والفكر.
- سادسًا: نحو فهمٍ جديد للجمال
في زمنٍ تتكاثرُ فيهِ الصُّوَرُ وتَبهتُ المعاني، يظلُّ الشعرُ العربيّ حاملًا لجوهرِ الجمالِ الأصيل. إنَّه يذكّرُنا بأنَّ الجمالَ ليسَ زينةً للّغة، بل هو بحثٌ عن معنى الوجودِ ذاته. فحينَ نقرأُ بيتًا لجبران، أو قصيدةً لبدر شاكر السيّاب، أو نصًّا لأبي تمام، نحن لا نقرأُ عن الجمالِ فحسب، بل نُعيدُ اكتشافَ أنفسِنا في صُورِهِ المتعدّدة: في الطبيعة، في المرأة، في الوطن، في الألم، في الأمل، في الفكرة.
الجمالُ في الشعرِ العربيّ هو الميثاقُ غيرُ المكتوبِ بين الشاعرِ والوجود: أن يُبقيَ على المعنى حيًّا، مهما تغيّرَ الزمانُ وتبدّلَتِ القِيَم. فالشاعرُ الحقيقيّ لا يُزيّنُ العالم، بل يُعيدُ بناءَهُ من الداخل، بالحرفِ والصورةِ والنغمةِ والدهشة.
- خاتمة
إنَّ صورَ الجمالِ وتجليّاتِه في الشعرِ العربيّ ليستْ مجردَ زخرفٍ لغويٍّ أو ترفٍ فنّيّ، بل هي انعكاسٌ لفهمِ العربيِّ لنفسه وللكونِ من حوله. من خيمةِ امرئ القيس إلى رموزِ أدونيس، ومن حنينِ الأطلالِ إلى شفافيّةِ الصوفيّة، ومن حُسنِ اللغةِ إلى عمقِ الفكرة، ظلَّ الجمالُ هو الخيطَ النّاظمَ لكلِّ ما كُتِبَ من شعرٍ عربيّ.
ففي كلِّ بيتٍ جميلٍ، هناكَ بحثٌ عن الله، وعن الإنسان، وعن لحظةٍ يتصالحُ فيها الكونُ مع نفسه.
وهكذا يبقى الجمالُ في الشعرِ العربيّ ليسَ غايةً فنيّة، بل حقيقةً كونيّةً تُنيرُ طريقَ الوعي، وتُعيدُ للحياةِ توازنها المفقود.
الجَمالُ وميضُ روحٍ في ظِلالِهِ،
لَا يُدرَكُ إلّا في خَيالٍ لا يَطَالُهُ