ماذا يقدم لنا الأمل حتى نلتصق به؟

ماذا يقدم لنا الأمل حتى نلتصق به؟

صالح مهدي محمد 

اللوحة: الفنان البلجيكي رينيه ماغريت

الأمل فكرة طيعة تسلم للعقل بكل بداهة، كما انه ليس وعدا جاهزا يعلق على جدار الوقت، بل نزوة خفية، رعشة أولى في قلب يوشك أن يستقيل. نلتصق به لأننا نفاجأ به، ولأننا حين نكاد نسقط في فراغ خاو، يمد لنا خيطا رفيعا لا يرى، فنمسكه لا لأننا نثق بمتانته، بل لان السقوط بلا خيط أقسى من الوهم بخيط.

الأمل لا يجيء من جهة واحدة. إنه لا يطرق الباب بقبضة واثقة، بل يتسرب من الشقوق، من صدع في جدار الياس، من ارتعاشة ضوء على حافة ليل. لذلك نلتصق به لا لأننا نراه بوضوح، بل لأننا نلمحه. اللمح يكفي. اللمح يوقظ الغريزة القديمة في الانسان: غريزة البقاء، وغريزة المعنى، وغريزة ان يكون لما يحدث الان امتداد لاحق، ولو كان هشا.

ما الذي يقدمه الامل؟ يقدم اولا زمنا اضافيا. لا زمنا تقويميا يقاس بالساعات، بل زمنا داخليا يقاس بالاحتمال. حين يظهر الامل، يتباطأ الانهيار، نتراجع خطوة، ونذهب الى فوضى داخل النفس، لا لتصبح نظاما، بل لتصبح محتملة. الامل لا يحل المشكلة؛ يؤجل استبدادها. يمنحنا فسحة نتنفس فيها، وفي التنفس تبدأ الحيلة، وتولد الفكرة، ويظهر الطريق.

لكن هل يكفي الامل وحده؟ سؤال يتكرر كصدى، ويبدو في ظاهره عقلانيا، وفي باطنه اعترافا بالخوف. الامل وحده، إذا ترك يتضخم بلا جسد، يتحول الى بالون في مهب الريح. لذلك يحتاج الى صنو يشبهه ولا يشبهه: الارادة. الارادة ليست شدة الصوت ولا صلابة القبضة، بل انتظام الخطوة. هي ان يتحول الخيط الى مسار، وان تترجم الرغبة الى عادة، وان يستبدل التمني بالفعل الصغير المتراكم.

الامل بلا معرفة قد يقود الى الدوران، والمعرفة بلا امل قد تقود الى القسوة. لهذا يحتاج الامل الى رفقة اخرى: الوعي. وعي الشروط، وعي الحدود، وعي الخسارة المحتملة. ليس الوعي عدوا للأمل، بل معدل جرعته. به لا ينفجر الامل في وجه صاحبه، ولا يتحول الى انكار للواقع. الوعي يعلم الامل ان يمشي على الارض، ان يضع قدميه في الطين دون ان يفقد نظره الى السماء.

نلتصق بالأمل لأنه يمنح المعاناة معنى مؤقتا. المعاناة حين تترك عارية تهين صاحبها، وحين تلبس ثوب الامل تصبح طريقا. لا تختفي، لكنها تتبدل. تتحول من عقوبة الى امتحان، من عبء الى رواية قيد الكتابة. الانسان لا يحتمل الالم طويلا إذا كان بلا سرد، والامل يقدم السرد: بداية غير مكتملة، ووسطا مترددا، ونهاية مفتوحة.

في لحظات الانكسار الكبرى، لا يأتينا الامل كمنقذ متعال، بل كصديق متواضع. يجلس الى جانبنا، لا يطلب منا ان ننهض فورا، بل ان نبقى. البقاء فعل اخلاقي في زمن الانهيار، والامل هو الاخلاق حين تفقد القوانين قدرتها. به نختار الا نغادر المشهد، والا نترك حياتنا معلقة بلا شاهد.

غير ان الامل ان لم يسند بعمل يتحول الى عادة تسويف. هنا تظهر الحاجة الى مقوم ثالث: العمل. لا العمل البطولي الذي تصنعه الشعارات، بل العمل اليومي الذي لا يراه احد. خطوة تعاد، فكرة تجرب، باب يطرق مرة اخرى. العمل يمنح الامل جسدا، والجسد يمنح الامل ذاكرة، وذاكرة الامل هي التي تقنعنا بالاستمرار حين يتأخر الوعد.

ثمة مقوم رابع لا يذكر كثيرا: الجماعة. الامل الفردي يتعب سريعا، اما الامل حين يتوزع بين اكثر من قلب، فيخف وزنه. المشاركة لا تضاعف الامل عددا، بل تضاعفه تحملا. حين نرى غيرنا يتمسك بخيطه، نصدق ان خيطنا ليس وهما كاملا. الجماعة لا تضمن الوصول، لكنها تمنع الانكسار الكامل.

الامل ايضا مدرسة في التواضع. يعلمنا الا نطلب كل شيء الان، وان نرضى بالتحسن بدل الكمال، وبالنجاة بدل الانتصار. في هذا التواضع تنقذنا الحياة من فخ الاحباط، فالإحباط ليس خيبة الامل فقط، بل خيبة الصورة التي رسمناها للأمل. حين نخفف الصورة، يخف الوجع.

قد يقال ان الامل خدعة جميلة، وربما هو كذلك، لكنها خدعة ضرورية. الانسان لا يعيش بالحقائق وحدها، بل بما يربط الحقائق بقلبه. الامل هو هذا الرباط. ليس حقيقة قائمة بذاتها، ولا كذبا محضا، بل علاقة: علاقة بين ما هو كائن وما يمكن ان يكون. في هذه المسافة الصغيرة تتسع الحياة.

نلتصق بالأمل لأنه يعلمنا الانتظار دون عناء، والسعي دون قسوة. نلتصق به لأنه، في نهاية المطاف، ليس وعدا بالوصول، بل تعهد بعدم التوقف. وحين تتضافر مقوماته — ارادة تنظم الرغبة، ووعي يهذب التوقع، وعمل يجسد الامكان، وجماعة تتقاسم الثقل — يتحول الخيط الى طريق. طريق لا يضمن النجاة، لكنه يمنحها فرصة. وفي عالم شحيح بالفرص، تكفي الفرصة كي نواصل الالتصاق.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.