حين يتذكّر الحجرُ أسماءه

حين يتذكّر الحجرُ أسماءه

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان الإيطالي جورجيو دي شيريكو

التمثال لا يعرف متى بدأ واقفًا، ولا لماذا انتهى واقفًا أصلًا.

الحجر لا يحتفظ بالتواريخ؛ هو يعرف الثقل فقط. يعرف كيف يُرفَع، وكيف يُترك مرفوعًا زمنًا أطول مما يحتمل المعنى.

كان قائمًا في الساحة منذ زمنٍ لا تُحصيه الساعات. الساحة نفسها كانت تتبدّل حوله: حجارة تُستبدل، أشجار تُقتل ثم تُزرع بدائلها، وجوهٌ تمرّ وتشيخ وتختفي. وحده ظلّ هناك، بملامح مصقولة بدقّةٍ مبالغٍ فيها، كأنّ النحّات لم يكن يصنع وجهًا، بل قناعًا يصلح للخلود.

النحّات… لم يكن واحدًا، بل سلسلة من الأيدي.

الأول نحت الجسد، وكان صامتًا أكثر من اللازم.

الثاني أصلح الأنف لأنّه «لم يكن بطوليًا بما يكفي».

الثالث صقل الجبين كي لا يبدو مترددًا، وكأنّه يدلّ على ملمحٍ من شموخ.

الرابع محا خطًّا خفيفًا قرب الفم، قال إنّه يوحي بالشك أو بعدم الدقّة في إخراجه بالهيأة التي أُريد له أن يكون عليها.

كلّ نحّات كان يضيف شيئًا، ويأخذ شيئًا آخر.

كانوا يقتربون منه كما يقترب الجرّاحون من مريضٍ لا يُسمح له بالنزف. وحين انتهوا، وقفوا بعيدًا، تأمّلوه، ثم قال أحدهم:

– الآن صار مناسبًا للساحة.

لم يسأل أحد: مناسبًا لِمَن؟

التمثال لا يرى. لكنّه يُرى. وهذا فرقٌ شاسع.

الأطفال يتسلّقون قاعدته.

العشّاق يواعدون تحت ظله.

الخطباء يشيرون إليه بأصابع مرفوعة.

الجنود يمرّون أمامه بخطى منتظمة.

الكهنة يباركونه بصمت.

العابرون لا يرفعون رؤوسهم أصلًا.

وعلى بعد أمتار قليلة، قرب التمثال تمامًا، كان هناك كشكٌ خشبيّ صغير، غير متناسق مع الساحة، كأنّه بُني على عجل ثم نُسي. يقف داخله بائع زهور، رجلٌ نحيل، بوجهٍ لا يصرّ على شيء.

يبيع زهورًا لا تعيش طويلًا: قرنفلًا، وياسمين، وأحيانًا وردًا ذابلًا يصلح أكثر للوداع منه للاحتفال.

لم يكتفِ بالبيع. كان يقرأ.

كلّما اقترب زبون، ناوله الزهرة، ثم ألقى جملة، أو سطرًا، أو قصيدة قصيرة كتبها على قصاصات ورق صفراء. لم يكن يسمّيها شعرًا.

كان يقول:

– هذه بقايا كلام.

أحيانًا يقرأ للتمثال دون أن يلتفت إليه:

«الحجرُ الذي لا يسقط

يظنّ نفسه خالدًا

ولا يدري أنّ الوقوف

قد يكون شكلًا بطيئًا من أشكال الموت.»

لم ينتبه أحد. ولا التمثال… بعد.

التمثال صامتٌ صمتًا احترافيًا، صمت من يعرف أنّ الصمت هنا وظيفة، لا اختيارًا.

لكنّ الصمت، حين يطول، يبدأ بالتآكل من الداخل.

في إحدى الليالي، حين خفّ ضجيج المدينة إلى حدّ يشبه الاعتراف، حدث شيء لم يكن في حساب الحجر.

لم يكن صوتًا.

لم يكن حلمًا.

كان ارتدادًا.

كأنّ فكرةً سقطت من السماء واصطدمت به من الداخل.

تذكّر.

لا صورة كاملة، لا مشهد واضح، بل شظايا:

دفء يدٍ بشرية،

ارتجاف جسدٍ قبل الضربة الأخيرة،

صوت اسمٍ يُنادى مرّة واحدة ثم يُسحب من الهواء،

ثقلٌ على الصدر،

ثم… توقّف.

لم يتذكّر أنّه كان حيًّا.

تذكّر أنّه كان شيئًا آخر.

ومنذ تلك اللحظة، صار يسمع.

ليس الأصوات، بل المعاني التي تسقط من الكلام.

في الصباح، لاحظ الحرّاس أنّ شيئًا تغيّر.

ليس في الشكل، بل في الإحساس.

بدا التمثال أقلّ ارتفاعًا، كأنّ المسافة بينه وبين السماء تقلّصت، كأنّه انحنى دون أن يتحرّك.

مرّت امرأة عجوز، توقّفت، حدّقت طويلًا، ثم همست:

– وجهه حزين اليوم.

ضحك ابنها وقال إنّ الحجر لا يحزن.

لكن بائع الزهور، وهو يرتّب باقاته، رفع رأسه وقال بهدوء:

– الحجر يحزن حين يُجبر على أن يتذكّر نيابةً عن الجميع.

لم يسمعه أحد.

الذاكرة، حين تزور الحجر، لا تأتي وحدها.

تجرّ معها وزنًا لا تحتمله القواعد.

بدأت الشقوق الدقيقة تظهر عند القاعدة.

قال المهندس إنّها طبيعية، نتيجة الرطوبة.

قال المؤرّخ إنّها أثر الزمن.

قال السياسي إنّها محاولة تشويه متعمّدة.

وقال أحد النحّاتين، وقد عاد ليتفقّد عمله القديم:

– لا بدّ من ترميمه… هناك صدع في المعنى.

لم يفهمه أحد، فصمت.

في الليل، حين تعود الظلال إلى أحجامها الحقيقية، كان التمثال يخوض حوارات لا يسمعها أحد.

ليس مع أحد، بل مع نفسه القديمة، تلك التي طُمست تحت طبقات الصقل.

– لماذا أنا هنا؟

– لأنك صمتَّ.

– ولماذا صمتُّ؟

– لأنّ الصوت كان سيُكسرك.

– وأنا الآن؟

– الآن تتذكّر.

كان بائع الزهور آخر من يغادر الساحة.

قبل أن يغلق كشكه، قرأ بصوتٍ خافت:

«التماثيل لا تسقط فجأة

هي تتذكّر

ثم تتعب

ثم تترك الجاذبية

تُكمل ما بدأته الذاكرة.»

في يوم الاحتفال الكبير، ازدحمت الساحة بالأعلام والهتافات.

الخطب تُلقى باسمه، لا عنه.

الكلمات تُستخدم كمسامير إضافية تثبّته في رواية لا تشبهه.

وفي تلك اللحظة، تذكّر الاسم الحقيقي.

الاسم الذي لم يُنقش.

الاسم الذي مُسح قبل أن يولد.

وكان هذا أكثر ممّا يحتمل الحجر.

لم يحدث السقوط دفعة واحدة.

بدأ بصوتٍ خافت، أشبه بتنهدٍ طويل خرج من أعماق لا تُقاس.

ثم اهتزّت القاعدة.

ثم انكسرت إحدى الزوايا.

النحّاتون تجمّدوا.

بائع الزهور ابتسم بحزن.

والتمثال… ترك نفسه.

سقط.

لا كحادث،

بل كاعتراف.

تدحرج الرأس بعيدًا، وتوقّف وهو ينظر إلى السماء للمرّة الأولى دون وساطة.

انفصلت الذراع، وكشفت عن جوفٍ أجوف لم يكن أحد يتخيّله.

بقيت القاعدة فارغة، مذهولة.

قالوا: زلزال.

قالوا: تخريب.

قالوا: مؤامرة.

لم يقل أحد: تذكّر.

في الليل، حين أُزيل الحطام، بقي في الهواء شيءٌ لا يُكنس.

فراغٌ له شكل الحقيقة.

أغلق بائع الزهور كشكه في اليوم التالي، وترك على الخشب قصاصة واحدة:

«هنا سقط حجر

لأنّ الذاكرة

أثقل من الوقوف.»

ومنذ ذلك اليوم، لم يُعاد بناء التمثال.

لكنّ المدينة، منذ سقوطه، لم تعد قادرة على الوقوف بالطريقة نفسها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.