الحرزـ (10)

الحرزـ (10)

اللوحة: الفنان المصري فاروق حسني

سعاد الراعي

الجزء الخامس من الفصل الثامن من رواية تحت الطبع للكاتبة سعاد الراعي

  • أوراق الحرز (5)

الورقة العاشرة والأخيرة

لم تكن الورقة العاشرة شبيهةً بأخواتها. لم تكن مشغولة بالسطور، ولا ممهورة بجملٍ تفيض وجعًا كما اعتدتُ. كانت ورقةً مجعدة، متعبة، كأنها جسد حياة نفسها وقد انكمش من فرط ما تحمّل. لم تُطوَ بعناية كغيرها، ولم تُرتَّب في الحرز بحرص يدٍ تعرف الخوف. 

كانت منفلتة، 

منفردة، 

تتقدم الأوراق وكأنها تريد أن تُرى أولًا، أو تُقرأ أخيرًا.

كانت الورقة خالية من الكلمات… 

إلا من بصمة. 

بصمة إبهامٍ صغيرة مغموسة بدمٍ لم يجف. 

كانت حمراء قاتمة، 

منطبعة على الصفحة البيضاء كختمٍ نهائي، 

كصرخةٍ لا تحتاج إلى حروف.

وقفتُ أمامها طويلًا. أحسست أن حياة، حين وضعت إصبعها على الصفحة، لم تكن تسجل حضورًا عابرًا، بل كانت تجمع في تلك اللمسة خلاصة عمرها القصير، تختصر كل ما كُتب قبلها، وتشهد على ما لم تستطع قوله. كانت الورقة، رغم فراغها، صاخبة كأنّ عليها صدى كل الليالي التي صرخت فيها ولا أحد سمع او استجاب، وكل محاولات المقاومة التي خاضتها بجسدٍ صغير وروحٍ كبيرة، لم تفشل في تؤكيد جراءتها ومقاومتها وعزة نفسها.

ربما لم تعد حياة قادرة على الكتابة في لحظتها الأخيرة. ربما كانت يداها ترتجفان من النزف، أو ربما كانت عيناها تفقدان الضوء، فجعلت الدم حبرًا أخيرًا لخبر أخير.. وربما… ربما أرادت أن تقول ما لا تحتمله الكلمات، ولا تستوعبه اللغة.

كانت البصمة،

 وحدها كافية.. 

لتفتح أمامي أبواب المعنى.

أول ما خُيّل إليّ أن حياة لم ترد أن تكون ضحية صامتة تُطوى أوراقها وتُنسى. كانت تريد أن تترك جزءًا منها، قطعةً من دمها، من لحمها، من حقيقتها، كشاهدٍ لا يُكذّب. ولعلّها أرادت أن تُثبت للعالم أنّ ما جرى لها ليس خيالًا ولا مبالغة. 

الدم وحده

لا يكذب.

ثم خطر لي أنها ربما أرادت شيئًا آخر. كأنها تقول:
أنا هنا… كنت هنا… ولن يستطيع أحدٌ محوي.”

كانت تلك البصمة أشبه بصرخة انتصار أخيرة. ليس انتصارًا بمعناه الظاهر، الملموس. لقد كانت حياة في لحظاتها الأخيرة، منهكة جسدًا وروحًا، لكن انتصارًا من نوع آخر، انتصار الروح التي ترفض الاستسلام حتى وإن انكسرت العظام وتخاذلت العضلات.

كلما حدّقتُ في الورقة، شعرت أن حياة لم تكتب للشفقة، ولا لطلب الرحمة، ولا لتسجيل مصير مأساوي. كانت رسالتها صلبة، حادة، تشبه حدّ السكين الذي يقطع الظلام. كانت رسالة لكل فتاةٍ اغتُصبت، ولكل جسدٍ حاول أحدهم أن يدوس عليه، ولكل طفلٍ ظنّ أن العالم بلا سماوات.

كانت تقول:
ليس الخطأ فيكِ… ولا الخطيئة لكِ… ولا العار يسكن جسدكِ، بل يسكن أيدي من اعتدى عليك. قاومي… ولو لم يبقَ منكِ إلا نفسٌ واحد.”

لم تكن حياة تحلم بالنجاة وحدها. كانت تحلم بالمعنى. كانت تريد أن تُثبت أن المقاومة ليست حكرًا على الأقوياء، وأن الضعف نفسه يمكن أن يتحول إلى سلاح حين يرفض الانكسار.

عندما كانت تقاوم عمها والرجال الذين اقتحموا غرفتها واحدًا تلو الآخر، لم يكن لديها سلاح سوى جسدٍ مثخن وجدارٍ تتكئ عليه، وامل يتراءى بصيصه في البعيد. ومع ذلك قاومت، قاومت حتى انفجرت حياتها كالشرارة الأخيرة في ليلٍ طويل.

ولأنها..

لم تستطع أن تكتب جملتها الختامية، 

تركت دمها يقولها عنها. 

الدم الأكثر صدقًا من الكلمات، 

والأكثر قدرةً على البقاء. 

الكلام قد يُزوَّر، وقد يُمحى، لكن الدم حين يجف على الورق يبقى أثره لا يُمحى إلا باحتراق الورقة كلها.

ولم تكن حياة، في تلك اللحظة، تفكر بالذين قتلوها، ولا بعمها الذي باعها، ولا بالرجال الذين ظنوا أنهم سيغسلون خطاياهم بالصلاة. كانت تفكر بمن سيأتي بعدها. بالفتاة التي ستقرأ أوراقها ذات يوم، في غرفةٍ صغيرةٍ مشابهة، ربما مختبئة، ربما جريحة، وربما تحاول أن تفهم لماذا يُعامل العالم الأجساد الضعيفة كغنائم.

كانت حياة تقول لها:
اكتبي… 

قاومي… 

اصرخي… 

اتركي أثرًا… 

لا تبقي سجينة لأحد.”

ولعلّ دمها، حين صبغ الورقة، لم يكن شهادة موت، بل شهادة حياة. كأنها تقول:
“جسدي رحل… 

لكن قصتي تبدأ الآن”.

أدركت وأنا أتأمل البصمة أن حياة لم تكن تبحث عن الخلاص، بل عن الخلود. 

أرادت أن تُخلد لا كنبية ولا كبطلة، 

بل كصوتٍ انكسر ولم ينطفئ، 

كجرسٍ خفيفٍ يدق في الظلام ليهدي غيره للطريق.

ولم تكن الورقة العاشرة مجرد نهاية لسردها، بل كانت بداية لرسالة لا تُقال، بل تُفهم.

ورغم أن الكلمات غابت عنها، 

بقيت الورقة الأكثر امتلاءً بين كل الأوراق… 

لأن الفراغ، حين يُخَتَم بالدم، 

يتحول إلى صرخة كاملة.

وها أنا اليوم أقف أمام تلك الورقة الأخيرة، كأنني على تخوم حياتين: حياةٌ رحلت، وحياةٌ أخرى تُولد من رمادها.

كلما تأملتُ البصمة الممهورة بدمها، شعرت أن حياة، في لحظتها الأخيرة، لم تكن تموت… بل كانت ترفع إليّ وهجًا أثقل من الروح وأبهى من البقاء. كانت تُسلّمني وصيتها الأعمق، شيئًا أكبر من جسدها المكسور وأوسع من سنواتها القليلة. كانت تمنح كل فتاةٍ اغتُصبت صوتًا، وكل امرأةٍ قُهرت جناحين، وكل طفلةٍ ارتجفت خلف بابٍ مغلق نافذةً صغيرة على الضوء.

لم تكن حياة تطلب النجدة يوم عانقت الموت، بل كانت تطلب الشهادة، أن يجد ظلمها من يروي تفاصيله، وأن تجد صرختها من يحفظ صداها. وكانت البصمة وحدها، فوق صفحةٍ فارغة، كافية لأن تُسمِع العالم أجمع ما لم تستطع حروفٌ كثيرة قوله.

حين أطبقتُ أصابعي على الحرز الذي تركته لديّ، انطلقت دموعي بلا إرادة، دموعٌ ساخنة حملت كل ما شهدته في تلك الليالي التي كانت فيها مريضتي، وكل ما عرفته عن قلبها الشجاع الذي كان يخفق رغم الانكسار، وعن ذلك اليقين المرير الذي كان يسكن عينيها كمن يتوقع نهايته ويقرأ الغيب في تضاريس مصيره.

أتذكرها في أواخر أيامها حين همست لي بصوتٍ أرهقه النزف:
“إذا لم أخرج من هنا… 

خبري عني 

أنّي قاومت”.

كانت تعرف… كانت تستشعر أن النهاية أقرب من أي دواء، وأن يد الموت تمتد لها من خلف الباب، ومع ذلك لم تسأل عن نفسها، بل عن قصتها؛ عن تلك الأوراق العشر التي خبأتها بقلقٍ يليق بالأسرار، كأنها تخشى أن تُسرق حكايتها مرة أخرى كما سُرق منها حقّها في الحياة.

ولم أفهم سرّ إصرارها إلا الآن، لحظة وقوفي أمام وصيتها، لحظة شعوري بأن دمها على الورقة ليس علامة موت، بل توقيع حياةٍ جديدة تُولد من جسدها الغائب. 

لوهلةٍ شعرت أن حياة لم تكن تكتب لنفسها، بل لكل من تم تجاهل أنينها وخنق صوتها ودفنت مأساتها في صمت البيوت.

فما حدث لها ليس قصة تُروى للدهشة، ولا مأساة فردية تنتهي بآخر صفحة. ما جرى لحياة يمكن أن يحدث كل يوم، خلف جدران لا نرى خلفها، في غرفٍ مغلقة لا تسمع العالم، وفي بيوتٍ تُطفأ فيها الأرواح كما تُطفأ المصابيح عند آخر الليل. حياة ليست استثناءً؛ إنها مرآة لآلاف الأجساد التي تُعذَّب بلا صوت، وعشرات الأرواح التي تُزهق بلا اسم، وأحلامٍ تُقمع بلا جنازة.

ولذلك، حين أكملت العشر ورقات، شعرت أنني لا أغلق قصة، بل أفتح عهدًا. عهدًا أعقده مع فتاةٍ غابت جسدًا وبقيت أثرًا، أن قصتها لن تُدفن معها؛ أن صمتها لن يُبتلع مرة أخرى.

يا حياة:
أعدك 

أنّي سأكتب قصتك كما أردتِ، 

صدقًا بلا رتوش، 

وعمقًا بلا تزييف، 

وقسوةً كما كانت. 

سأكتبها لتكون صرخة، لا أنينًا. نارًا، لا دموعًا. وسأضعها أمام العالم كما هي: حقيقةً لا خيالًا، قدرًا لا مبالغة، وجعًا يحدث كل يوم ولا يلتفت إليه أحد.

سأكتبك…

لأنك تستحقين أن تُكتبين.
وسأنشركِ…

 لأن العالم يحتاج أن يرى ما يختبئ خلف أبواب مغلقة، وما يُرتكب في العتمة باسم العيب والخوف والصمت.

وسأخلّدك… لا كمأساة تبكيها العيون ثم تنساها، بل كقوة. كجسدٍ قاوم حتى آخر نفس، كروحٍ رفضت الإنطفاء، كفتاةٍ علمتني أنّ الدم حين يختلط بالحقيقة يصبح شهادة لا تُمحى.

ها أنا، اليوم:

أكتب … 

اكتب، ليست نهاية حياة.
إنها بداية الصرخة التي تركتها خلفها.

بهذه البصمة
بهذه الورقة الفارغة التي امتلأت بدمها
بهذه الوصية التي سلّمتني إياها وهي تعبر من عالمٍ إلى آخر

أعلن أن حياة لن تُنسى.
ولن تُدفن قصتها.
ولن تكون حكايتها مجرد رواية تُقرأ قبل النوم، 
بل شهادة حيّة على ما يمكن أن يحدث “وما يحدث فعلًا” كل يوم خلف الجدران
.

وما دامت كلماتها قد وصلت إليّ، فسأجعلها تصل إلى العالم كله.

سلامٌ لروحك يا حياة.
سلامٌ لدمك الذي صار حبرًا.
سلامٌ لصرختك التي تحولت رسالة.

وليعلم الجميع
أن حياة… وإن رحلت، 

قد تركت أثرًا لا يزول.


الحرزـ (9)

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.