لستَ أنتَ يا صاحبي

لستَ أنتَ يا صاحبي

اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر

في برنامج «حيلهم بينهم» الذي كان يقدّمه عمرو رمزي، استُضيف الفنان صلاح عبد الله.

اتفق فريق البرنامج مع ماجد الكدواني أن يظهر فجأة ويقول كلامًا بايخًا في حق صلاح عبد الله: أنه يحب سرقة الكاميرا، ولا يحب الخير لغيره، وغير ذلك من الكلام الثقيل.

فقال صلاح عبد الله بهدوء: «أنا مصدّقش إن ماجد يعمل كده.»

فقال عمرو: «هو ده مش ماجد!.»

فردّ صلاح: «آه ماجد، بس ماجد إنسان متربي، وابن ناس، وما يقولش الكلام ده غير لو متفقين معاه.»

***

كان أحد الأساتذة الجامعيين يرتدي ساعة نسائية، وكان الطلاب يتندرون عليه، حتى تجرأ أحدهم يومًا وسأله:

– لماذا تلبس ساعة نسائية؟

فقال الأستاذ بهدوء:

– هذه ساعة ابنتي التي ماتت.

***

يطارد المصريون – وربما البشر عمومًا – الحكم على «حقيقة الناس» التي تشفي صدورهم: أن فلانًا، بتصرّفه هذا، قد أفصح عن خبيئة نفسه، وأثبت أنه وغد، شرير، حاقد، حسود.

يظل الصديق، أو القريب، أو الزميل، مخلصًا وصادقًا وحسن السيرة والسلوك، ثم تأتي لحظة ملتبسة، فيصدر عنه فيها موقف واحد، قد يكون لأن المشاعر أو المفاهيم التبست عليه فانفلت منه التصرف؛ مشاعر سيئة طارئة غمرته للحظة ثم زالت، قوة ضغط أو ابتزاز دفعته إلى ما فعل، دون أن يملك القدرة على الإفصاح.

الاحتمالات كثيرة بلا عدد، لكن السلوك النادر والمنفلت لا يجوز أن يُبنى عليه حكم نهائي متعجّل، إلا إذا كان من يصدر الحكم قليل الحكمة، هشًّا في صدقه الإنساني.

***

كما أن لكل إنسان رصيدًا ماليًا، فله أيضًا رصيد من الخير، والصدق، والشهامة، والمحبة.

عود الكبريت يشتعل كل مرة بفعل الاحتكاك، وحين يصيبه البلل لا يشتعل. لكن هذا الظرف الطارئ لا يجعلنا نحكم بأنه فقد قابليته للاشتعال إلى الأبد.

كذلك الصديق الوفي، صاحب الرصيد الطويل من المواقف الصادقة، لا يجوز تصفير حسابه الإنساني بسبب موقف واحد، مهما كان حادًا. الأجدر أن نصبر عليه، وأن نذكّره برصيده، وبالصفات التي عرفناه بها، وألا نتعجل الفراق أو التخلي.

***

في قصة الأستاذ الذي يرتدي ساعة نسائية عبرة بليغة: كل تصرف غير مألوف، أو غير مفهوم، لا بد أن وراءه دافعًا خفيًا، منطقيًا لصاحبه. والتطفل خطأ، وسوء الظن جهل، فلندع الناس وحياتهم دون اقتحام، ولنعذرهم حين يصدر عنهم ما لا نفهمه.

ولأن الأحكام المتعجلة لا تولد من فراغ، فلا بد من البحث عن الجذر الخفي الذي جعل الناس أسرع في القطيعة، وأقل صبرًا على الالتباس.

***

المسارعة إلى التخلي، والاندفاع إلى سوء الظن، يتناسبان طرديًا مع وهم الاستغناء.

{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} – العلق (6–7)

في القرن الماضي، كان الناس يختلفون ويتشاجرون ويتبادلون سوء الفهم، لكن كان هناك إصرار عنيد على الحفاظ على الودّ والصلة؛ لأن كل طرف كان يدرك في قرارة نفسه، أنه سيحتاج الآخر قريبًا.

كان الفقر شائعًا، والوسائل الحديثة المستوردة نادرة، ولم تكن أبواب السفر للعمل في الخليج قد فُتحت بعد، لذلك لم يكن «الاستغناء» واردًا في المخيلة أصلًا.

أما اليوم، فقد صار الاستغناء فوريًا: خطأ واحد، موقف ملتبس، فيُطرد المرء من الصداقة بلا إنذار، لا كارت أصفر، ولا فرصة تفسير، ولا رصيد يُستدعى.

السبب ليس قوة أخلاقية، بل وهم الاكتفاء، وهم أن الإنسان لم يعد محتاجًا لأحد، وأن العلاقات يمكن استبدالها كما تُستبدل الأشياء. وهذا مرض اجتماعي خطير؛ فالتواصل حياة، وعدم التواصل عزلة، والعزلة شقاء مقنّع باسم الاستقلال.

***

قال لي صديق ذات مرة: «هل تعلم أن أختي التي أحبها كثيرًا، لو لم تكن أختي، لكرهتها بلا حدود؟ فهي غضوبة، سريعة الظن، حادة الطبع. لكنني أرحمها؛ لأنني تربيت معها، وأعرف صفاتها النبيلة. أعذر هنّاتها، وانفلات أعصابها، وطيش أقوالها. أعرف ما عانته في طفولتها، وهو ما زرع فيها هذه الصفات المريضة. فهي طيبة القلب، لكنها تحتاج طبيبًا نفسيًا.. أو رفقاء رحماء بها.»

هذا البوح البسيط جعلني أفهم أن خلف كل خطأ منفلت قصة، وخلف كل قسوة جرح لم يُرَ. وأن الإنسان لا يُختزل في أسوأ لحظاته، بل يُفهم في سياق حياته كلها.

ولو استحضرنا مشاعر هذا الأخ تجاه أخته ونحن نواجه الآخرين، لعذرنا أكثر، وقسونا أقل.

***

نحن لا نحتاج إلى مزيد من الذكاء لنحاكم الناس، بل إلى قدرٍ أكبر من الرحمة لنفهمهم. فكلنا، بدرجات مختلفة، نطلب ممن حولنا شيئًا واحدًا فقط: أن يُعاملونا كما يُعامل الأخ أخاه.. حين يعرف قصته كاملة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.