اللوحة: الفنان الإنجليزي إدوارد لير
مارا أحمد

نظرت إلى تلك السلحفاة التي تشاركني غرفتي بل سريري وبيتي، وجدتها مترددة دوما في أن تطل برأسها لتشاهد من حولها وتتعرف على مفردات بيئتها؛ تُخرج رأسها لثوانٍ ثم تختبئ في صدفتها لساعات، كما وأنها تهرب من الحياة، تخاف أن تتذوق الألفة، تمارس التعلق بحبيب أو رفيق حتى لا تُطعن في قلبها أو تُصفع على كرامتها؛ كانت تكتفي بالسلام والهدوء الذي وجدته أثمن من أن تضيعه في علاقات خسائرها أضعاف مكاسبها.
يكفيها تلك الوريقات من الخس أو حتى قطعة من أي ورقة خضراء لتبقى حية وترافق باقي اليوم ذاتها وتنغلق على نفسها، لذلك فهي من الكائنات المعمرة؛ فهي لا تُقحم نفسها في سباق مع أحد، ولا أطماع لها في مخلوق، ولا حلم تستميت للوصول إلى طريق لتحقيقه، ولا لهفة ولا ألم لخيبة ما لحقت قلبها…
كلّما تأملتها، اتضحت الصورة أمامي وأضاءت ألوانها كمحاكاة صادقة للطبيعة، طبيعتي.
نعم، أنا انعكاس لتلك السلحفاة، أخشى الانخراط بين البشر والانغماس في التعلق، ولكني لست بحكمتها القسرية؛
فلقد تلقيت من المحيطين الصفعات تلو الأخرى حتى أصابتني متلازمة أقرب للجبن، بل الرهاب، الرهاب من الفشل، الرهاب من الرفض، الرهاب من الحب، الرهاب من الفقد.
كنت أكتفي بالمشاهدة والمراقبة، كما وأني في أحد الأركان بإحدى دور السينما أستمتع بفيلم طويل، متعدد الأبطال والمشاهد والأماكن، وأنا مرة أضحك ومرة أذرف الدموع لصدمة البطلة، وأحيانا أجد جسدي الكامن الساكن في كرسيه يتراقص مع البطلة ويطفئ شموع عيد الميلاد مع الحبيب، وأراني مع الجموع لأشارك في مسيرة أطالب فيها برفع الظلم عن النساء والمعيلات، وأشاهد نفسي وكأنني من تلك الطبقة الطافية على سطح الحياة والتي لم تلامس أصابع أقدامهم القاع وطينه، والتي يسمونها الطبقة الأرستقراطية أو البرجوازية، أشارك في مسيرة تطالب بحق الحيوان والرحمة بالحمار الذي يتلقى ضربات صاحبه الذي يعاني من مرض السادية الذي وصله كعدوى من الفقر والظلم الراسخ فوق ظهره، أعيش الحياة كمشاهدة أستمتع فقط بالتصفيق لكل مشهد جميل، لكل سيدة ناجحة، لكل ثائر رفض إلا أن ينتزع حقه بيده، لم يكتف بأن يستنجد بالسماء لتصب لعناتها على الظالم وترد له حقه؛ فلن تتدخل السماء وقد منحك الإله صلاحيات لم يمنحها لمخلوق غيرك. أما عني، فأنا كما تلك السلحفاة؛ أقنع نفسي أني أعيش، ولكن وللحق أعترف أنني أتنفس الهواء وأمضغ اللقيمات وأنا مسجونه تحت صدفتي.
ولكني لم أخلق سلحفاة، ولم يسوِني الإله جمادا ولا حيوانا ولا ملاكا ولا شيطانا، أنا إنسان منحه الرب عطية العقل والوعي وحرية الاختيار، وكان يقينه أننا سننجح في تحديه للملائكة ومخلوقاته أجمعين، فإذا كان هناك من يشعل الحرب ويحرق الزرع وينشر المرض فهناك أيضا من يسن قوانين تحمي الطبيعة ويحافظ على بقائها صحيحة وهناك من ينظم المحاكم والقضاء الحر الذي يدافع عن حق الأمم في حريتها واستقلالها، وإن كان هناك رجل صفعني بفعل الخيانة فهناك من طبطب وربت على كتفي ومد يد العون لأنهض وأكمل رحلتي.
الانزواء ضعف، الاستسلام ليس من شيم الإنسان الذي وهبه الله نفخة من روحه فكان ذلك الكائن الجبار الذي صعد للقمر ويُعبّد المريخ وخلق جنته بالأرض، ذلك الكائن الجبار الذي يجبر نواقصه والذي يعض على أنامل الندم حين يرتكب جريمة الهدم.
لا يجوز أن أحيا كسلحفاة؛ فالحياة متعتها أن تغامر وتتنافس، فتجد في نهاية كل مشهد متعة مختلفة، ربما لن أعيش بعدد سنوات سلحفاتي، ولكنني سأحيا.