قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة جدا

اللوحة: الفنان الإيراني مرتضى كاتوزيان

عبد الهادي زيدان

بلا مصب

في ظل هذه الأجواء كنت انتظر بلهفة لحظة الشروق.. امتداد الأفق.. زخات المطر.. ذلك النهر الذي كان بلا مصب.. تلك الوجوه المطرزة بالابتسامة الخجلي على محيا النيل.. ذلك العش الذي اعتدت المرور عليه فوق غصن الشجرة هناك.. لم أكن أدرك بأنها المرة الأخيرة التي لن أري بعدها ذلك الرجل الذي كان يفترش حذاءه على الرصيف المقابل.

بلا بوصلة

بعد مرارات صقيع الغربة في الاحداق وغياب الشمس في مرافئ الهجر، بعد عذابات الصبر المصلوب على أرواح البسطاء، بعد حنين اثبطه الهم الماكث في جوف المعدة الموعودة بالرزق المكلوم الغارق خلف رمال الغيب، تعتذر خيام الصحراء، تلفظهم، تلقيهم، ترميهم في اليم العاصف، التقطتهم يد ملاح ما لامس يوما بوصلة، بدراهم معدودة بشرهم بالعودة من حيث أتوا، تتراءي عن بعد منارة المدينة وظلال القلعة، خفر السواحل في انتظارهم وفي اعينهم صور دمي أطفال لم يأتوا لهم بها وزغاريد أمهات جفت دموعهن بعدما رسم الفراق همومه علي الجبين ووجوه اباء لم يتوقفوا عن الرجاء، لحظتها اختفي المرسى وغاب الشاطئ.

فضاء واسوار

وتدافع الناس نحو محطة المترو، اقترب موعد الحظر في جمعة لا اعرف لها مسمي، افواج من البشر تتلاحم بحثا عن الركوب، سيدة تسقط ارضا محتضنة وليدها، لا أحد يأبه بها، بوابات المترو الالكترونية غالبيتها معطلة، يتسلل منها البعض دون تذكرة، أناشيد وطنية تنبعث داخل المحطة لتختلط بالعرق المتصبب، كاميرات مثبتة هنا وهناك تلتقط حركة الركاب. 

خرجت مسرعا كغيري، الانتشار الأمني والمدرعات توحي بشيء جلل، تختفي الميكروباصات، معطلة حركة القطارات إلى الأقاليم، رويدا رويدا يتوارى الناس في عجلة من أمرهم.رايته كاسرا إشارة المرور، مندفعا نحو الكمائن، هابطا تارة وصاعدا أخري مخترقا الأسوار الشائكة، مرفرفا بجناحيه، ملتقطا حبات من الارض، تاركا أسوار السكون، رافضا قوانين الحظر متجها نحو نافورة مهملة، مغترفا شربة ماء، معانقا غصن شجرة، متسابقا مع اقرأنه في الفضاء، متأملا وجع الفانين من البسطاء، متناسيا رغبة الهبوط، رآه أحدهم، امسك ببندقيته، أطلق رصاصاته، أصاب جناحيه وفي فمه حبات قمح وبقايا ماء لم يصل إلي جوفه وتغريدة لم يكتب لها الوجود.

احتفاء

كان الطابور مزدحما والجموع غفيرة، والتفتيش دقيقا والوجوه متجهمة ورجال الامن في حالة تأهب، أحدهم يفتش مكفهرا في الأوراق والأخر في الجيوب وغيره في زوايا الأحذية، يدخلهم فرادي علي جهاز الكتروني، الصفير يعيدهم، يتحفز رجل الامن، تصفر الوجوه، تستخرج النقود المعدنية، تفكك الاحزمة، تعاد الكرة، يزداد الصفير تعود فتاة، تنتزع اكسسواراتها، يتضور الواقفون غضبا، تشتد حرارة الشمس، ترتبك حركة المرور، تزداد الاعداد صخبا، تتردد مفردة التحرش هنا وهناك.. تتعالي الأصوات، تتداخل، تتطاول الالسنة.. يتبادل الانفلات.. تنقل العدسات ما يجري، ظل المذيع يتغزل في مهارة الكلاب البوليسية التي اجادت أدوارها، ظننته مشهد لكمين في منطقة عسكرية.. على بعد امتار قليلة لافتة تقول: (الجامعة ترحب بكم في عامها الجديد)

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.