كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (2)

كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (2)

الصورة: الجنرال جاك فرانسوا مينو (عبد الله جاك مينو)

تحاول هذه الدراسة تقديم مقاربة حول تاريخ الأصوات من خلال قراءة تحليلية لأربعة جوابات، تعود إلى زمن الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر. تغطى الجوابات الأربعة أزمة تعرضت لها فتاة مصرية تدعى زبيدة ابنة محمد البواب، مع أهالي مدينتها رشيد؛ بسبب زواجها من أحد كبار جنرالات جيش الاحتلال. ولم يشفع لها اشتراطها وقوف الجنرال أمام ساحة القضاء الشرعي وإعلان إسلامه.

كانت زبيدة تنتمي لأعيان الطبقة الوسطى، وكان مينو بحكم منصبه والمهام العسكرية التي كان يُكلف بها، يضطر بين وقت وآخر لمغادرة رشيد، وكانت كتابة الجوابات هي وسيلة التواصل الأساسية بينهما، ومن هنا مثلت جوابات زبيدة – مينو مصدرا مهما يمكن أن يكشف الكثير مما نجهله عن قصتهما التي لطالما صيغت بأقلام المراقبين والمعاصرين لها، والذين كانوا في الغالب رافضين لها ولزواجها من مينو، ما جعلهم يرسمون لزبيدة ملامح مصطنعة ابتعدت في جزء كبير منها عن الواقع التاريخي: فهل تمكننا دراسة هذا المصدر من العثور على زبيدة من جديد، واستعادة بعض آثار صدى صوتها لتحكي بنفسها، ولتتكلم بصورة عفوية عن جانب من سرديتها، لعلها تكشف لنا جزءا من حقيقتها (الغائمة)، بما يمكن معه عمل مراجعة نقدية للصورة السائدة عنها؟ ذلك هو السؤال الإشكالي الذي نحاول معالجته في هذه الدراسة.

أرشيف فانسين وجوابات زبيدة

تعد الجوابات التي وصلتنا من فترة الحملة الفرنسية (في صيغتها العربية) أحد أهم المجموعات الوثائقية، التي تأتي ضمن محفوظات “جيش الشرق” (جيش بونابرت)، والمصنفة تحت رمز GR B6 armée d’Orient، والمودعة بالأرشيف التاريخي لوزارة الدفاع Service historique de la Défense (SHD) بقلعة فانسين في باريس.[1]

والواقع إن عملية الجرد التي خضعت لها وثائق جيش الشرق مؤخراً[2]، بحثاً عن المجموعات الوثائقية العربية، مكنتنا من رصد أربعة جوابات لزبيدة باللغة العربية (مصحوبة بترجمات فرنسية): تعود إلى شهر نوفمبر من عام 1799 (العام الأول من الزواج).

في حين لم يصلنا من جوابات مينو المتبادلة مع زوجته أو ما دار حولها، سوى عدد محدود: جواب واحد أو بالأحرى مسودة جواب بالعربي موجه إلى زبيدة، مأخوذ من سجلات مينو، يعود إلى يوليو 1801، ويتعلق بترتيب سفرها هي وابنهما الأول سليمان مراد عبد الله جاك مينو إلى فرنسا[3]، بينما نجد مراسلتين، وجههما مينو إلى كل من ديوان رشيد (بتاريخ 7 مايو 1799) وقضاة محكمة رشيد (نسختين لجواب واحد، أحدهما مسودة والآخر نسخة كاملة وموقع عليها بخط مينو بتاريخ 10 مايو 1799)، تتعلق الرسالتان بتوصيته على زبيدة وأهلها إبان استعداده للمشاركة في حملة بونابرت على سوريا[4].

وكان للسيد على الحمامي، أخو زبيدة، جوابان[5]، يعودان لشهري مارس / مايو 1801؛ أي إبان الفترة التي هربت فيها زبيدة وأخوها بصحبتها من مدينة رشيد إلى القاهرة للاحتماء بالجيش الفرنسي من العثمانيين الذين أرادوا معاقبتها. خلافا لذلك، كان هناك عدد آخر من الجوابات الفرنسية والعربية لأشخاص آخرين كانوا في الغالب يؤدون للست زبيدة الخدمات والرعاية اللازمة لها ولعائلتها الصغيرة[6]. وهي مادة يمكن أن تعطي إضاءات واقعية حول سردية زبيدة – مينو.

ومن واقع تصفح المادة الأرشيفية لوثائق جيش الشرق، يتبين منها أن الجنرال مينو، من جانبه، لم ينقطع عن تبادل مراسلاته مع زوجته، في كل موقع توجهت إليه، وكانت تلك رغبة زبيدة التي كثيرا ما كانت تطلب منه عدم قطع أخباره وجواباته عنها. ومن جانبها، كانت تواظب على إرسال الجوابات إليه، ونجدها في أحد جواباتها، بتاريخ 11 نوفمبر 1799، تخبره بأنها أرسلت إليه في يوم سابق ” جملة مكاتيب “[7]، وأنها تتطلع إلى أن يكونوا قد وصلوا إليه. كانت زبيدة ترسل المزيد من الجوابات تحسباً لسقوط بعضها بين يدي صائدي البريد، الأمر الذي يبين أن جواباتها الأربعة تشكل رقماً ضعيفاً، لا يعبر عن الحد الأدنى المتوقع من حركة تبادل الجوابات.

كذلك كان أخوها السيد على يحث الجنرال مينو على الكتابة بصفة مستمرة؛ وخاصة في اللحظات التي شعر فيها بخطر ملاحقة العثمانيين لأخته التي أردوا معاقبتها على قبولها الزواج من جنرال في جيش الاحتلال، ولنقرأ ما كتبه إلى مينو في لحظة توتر شديدة:” ونعرف سيدي ان تراسلونا بالجوابات.. فلازم من ارسال الجوابات اول بأول وساعة بساعة”[8]. ويُفترض في ضوء ذلك أن جانبا كبيرا من تلك الجوابات، وخاصة تلك المتعلقة بالعام الأخير (1801)، إما أن جهات حفظها لا تزال مجهولة لنا أو أنها فُقِدتَ وللأبد.

ومن المعروف أن الجنرال مينو تعنت في تسليم ما لديه من وثائق عقب عودته لفرنسا، لكن الحكومة، عقب وفاته في ايطاليا في أغسطس عام 1810، حيث كان حاكما على البندقية، تمكنت من تسلم صندوقين يحتويان على أوراقه الخاصة، وتم إلحاقهما بوثائق أرشيف جيش الشرق بقلعة فانسين باريس[9]، وبطبيعة الحال، كان من حسن حظنا أن وجدنا بين أوراق مينو جوابات زبيدة وأخيها السيد على الحمامي.

صياغة عقد الزواج: صوت زبيدة في شروط العقد

كان الخبر الذي انتشر في الآفاق متجاوزا مدينة رشيد نفسها، معلناً عن زواج جنرال كبير يدعى مينو من فتاة مصرية، قد أكد ظاهرة اجتماعية بدأت تأخذ طريقها إلى الانتشار بالتدريج.

ومعروف أن زبيدة قبلت بزواجها من مينو بعد أن استجاب الأخير لكامل شروطها، بإشهار إسلامه أمام أهالي رشيد وكبار شيوخها وعلمائها، وتغيير اسمه إلى “عبد الله جاك مينو” الذي سجله في عقد الزواج كما كان يوقع به على منشوراته الرسمية[10] كذلك حرصت زبيدة على أن يتوجه مع وكيله إلى محكمة رشيد الشرعية لتسجيل عقد الزواج.[11]

ومن المفترض أن شروط العقد البالغة إحدى عشر شرطاً، قد دارت بشأنها حوارات ومناقشات كلامية طويلة سبقت عملية التوثيق الأخيرة في المحكمة، حتى استقرت زبيدة على كامل مطالبها التي بلغت في العقد (عشرة شروط). ومن دون شك تجد الحوارات السابقة على تسجيل العقد انعكاسا لها في تفاصيل الشروط المسجلة، والتي انتهت بتحرير نسختين متطابقتين بالمحكمة. لقد عرفت زبيدة كيف تؤمن كامل حقوقها مع الجنرال، في كل الظروف المحتملة حياة وموتاً، وسواء ببر مصر أم بفرنسا، وحق الوصاية على الأولاد إن انجبت منه، وأخيراً في حال استمرارها معه أو إذا ارتأت خلعه والانفصال عنه. وهى صياغة محكمة للعقد، عبرت عن ملمح من قوة شخصيتها ومدى وعيها بالظرف الاستثنائي لفكرة زواجها وما أحدثه من صدمة لأبناء مجتمعها.

إن توثيق العقد وحرصها على حضور جمع غفير من كبار العلماء والمفتين على المذاهب الأربعة والفقهاء والشيوخ وثلة من كبار تجار رشيد وأعيانها ووجهائها، إلى جانب دعوة مينو لعدد من الضباط وكبار المسئولين الفرنسيين برشيد، بصفتهم شهود على صحة العقد[12]، كان بمثابة اشهار عام لزواجها الشرعي المعلن أمام أهل مدينتها قاطبة، بأنها في ساحة القضاء الشرعي وأمام نخبة كبيرة من وجهاء رشيد تزوجت من حاكم المدينة الذي صار مسلماً.

بدا العقد كأنه نص صوتي، يحتفظ بإقرار من حضر بساحة القضاء، حيث جرى تسجيل اسماء الجميع، بحضورهم وإشهادهم وتوقيعاتهم وإقرارهم بصحة العقد المبنى على التوافق والتراضي بين وكيلي زبيدة ومينو (السيد الميقاتي / الشيخ أحمد شهاب)، وبالصيغة الشرعية المعتادة، أقرا بقبولهما الزواج بكامل الشروط المسجلة ” من غير إكراه ولا إجبار التزاماً مرضيا وثبت ذلك لدى مولانا افندي ثبوتا شرعيا”، ما يحفظ للعقد سلامته من أي شبهة. وبالنسبة لزبيدة، كانت عملية التوثيق ضمانة لها، ليس لحقوقها كزوجة، وإنما أيضاً كانت بمثابة الدليل المادي الموثق أو بالأحرى سلاحها الذي يمكنها أن تشهره في وجه كل مدع عليها أو منتقد لها أو متشكك في صحة موقفها الشرعي في قبول الزواج.

وبالنسبة لمينو، أسس العقد بداية تكوين عائلته المسلمة، والتي تنتسب إلى الأشراف، ما يحقق له الفكرة البونابرتية الطموحة، في اقناع المصريين بأنهم صاروا في ظل الحكم الجديد ” أخوة ” للفرنسيين. وسوف يكشف بصوت كلماته عن دوافعه السياسية من وراء هذا الزواج في رسالة كتبها إلى حاكم القاهرة الجنرال دوجا قال فيها:” يجب أن أحيطك علما يا عزيزي الجنرال بأنني قد اتخذت لي زوجة، وأنى اعتقد أن هذا الإجراء يخدم الصالح العام”[13]. ويشير كرستوفر هارولد إلى أن بونابرت هنأ مينو على تضحيته في سبيل القضية الوطنية، وهو يدرك أن عمله أضفى شيئا من المعقولية على ما وعد به بونابرت المصريين بقرب تحول الجيش الفرنسي كله إلى الإسلام.[14]

وقع الخبر وعلو أصوات التنديد والاحتجاج

لم يقتنع المصريون بفكرة الأخوة في الدين والمستعمرة، فالاحتلال هو الاحتلال، ولا يمكن استساغة فكرة المصاهرات لخلق مساحة اندماج بين المحتل وضحايا الاحتلال، ويظهر ذلك في تعليقات المراقبين المحليين وردود فعلهم على مجمل الظاهرة: فقد اعتبرو مينو “مسلم كذاب” أو دجال ” ذا احتيال ومكر”.[15] فيما انتقد الجبرتي مسألة اقبال بعض الجنرالات على الزواج من بنات العائلات، حتى وإن اتخذوا السبيل الشرعي، يقول الجبرتي: ” خطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجهن رغبة في سلطانهم ونوالهم، فيظهر حالة العقد الإسلام، وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها”.[16] وفى المستوى الأوسع، انتقد الجبرتي مجاراة بعض النساء لزوجات الجنرالات في التبرج في ملابسهن والإعجاب ببعض سلوكيات المرأة الفرنسية:” لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم، كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة، فمالت إليهم أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم…”.[17]ولذلك سوف يتعرضن، في نهاية الحملة، للعقاب بصورة مروعة،على يد العثمانيين.

وفى الاتجاه نفسه عبر المجتمع على المستوى الشعبي عن رفضه للظاهرة في الأهازيج الغنائية الساخرة التي كانت تتداول على ألسنة العوام، تسجل صوت مصري (جماعي) رافض لغرام الجنرالات ببنات مصر. فقد لاحظ جيوم فيوتو (وهو أحد علماء الحملة) أثناء جلوسه على أحد مقاهي القاهرة[18] ترديد المصريين لمقطع صوتي متناغم، يعكس نمطا من أنماط التعبير الشعبي، كان قد أعجبه ايقاعه وفكرته الانتقادية، فحرص على تسجيله ضمن دراسته عن الموسيقى والأغاني والايقاعات الصوتية السائدة عند المصريين، والتي نشرها بكتاب ” وصف مصر”، جاء بهذا المقطع الصوتي:

أوحشتنا يا ساري عسكر

تـشــرب القـهـوة بالسـكــر

وعسـكــرك دايـر يسـكــر

وفى البلد حبوا النسوان [19]

ومن دون شك عبرت تلك الكلمات عن صوت احتجاجي جماعي، أطلقته قريحة المصريين تعبيراً عن موقفهم المندد لعربدة جنود الاحتلال ما بين السكر وزواج البنات أو خطفهن أحياناً والاستيلاء عليهن أحياناً أخرى، كما لو كانوا جزءا من متاع أو غنيمة حرب، على نحو ما حدث مثلا مع الجواري بقصور المماليك، حيث اعتبروا مصادرتهم لتلك القصور بمن يسكنها من الجواري والعبيد “غنيمة تئول ملكيتها إلى الجمهورية الفرنسية”! وهو تصرف مناقض تماما لشعارات الثورة الفرنسية ” الإخاء والعدالة والمساواة”،! ولذلك تحركت ” الست نفيسة ” (زوجة مراد بك) لدفع ” مال المصالحة” بقدر ستطاعتها عن عدد كبير من قصور البكوات المماليك لكي تنقذ زوجات البكوات وجواريهم. [20]

وبالرغم من حرص مينو على ممارسة شعائر دينه الجديد في تدقيق ملفت للانتباه: فهو يدرس القرآن، ويؤدى الصلاة في المسجد الكبير برشيد كل جمعة، ويصلي الصلوات الخمس في تعبد ظاهر، ويهتم بالاحتفال بالمولد النبوي….إلخ إلا أنه لم يستطع اقناع أحد بصدق تحوله إلى الإسلام.[21] فالمصريون نظروا إلى مينو كجنرال محتل قبل أن يقيموا له الاعتبار كمسلم. ولم يستطع الجبرتي تفسير قبول زبيدة بالزواج منه سوى أن الأمر برمته تم ” كرهاً من أهلها”.[22] إن بقاء الجبرتي في القاهرة بعيدا عن رشيد، وعدم تحديده مصدر معلومته تلك، إلى جانب عدم وجود أي مصادر تاريخية موازية تؤكد فكرة الإكراه، يجعلنا نتحفظ قليلا على ما ذهب إليه. وإن كان من المؤكد أن أهالي القاهرة كانوا في وضع شبيه بوضع نظرائهم برشيد، لم يرحبوا بهذه الزيجة التي هزت مجتمعهم. وفى ذلك كتب بوسيلج (مدير مالية الجيش الفرنسي) إلى مينو رسالة، بتاريخ 12 أبريل 1799؛ أي بعد الزواج بخمسة أسابيع، أوضح فيها بعد تهنئته، بأن خبر زواجه حين وصل إلى القاهرة، لم يترك سوى أثر إيجابي محدود، وأن أهل البلاد لم يكونوا سعداء بهذه الزيجة، لكنه تمنى له أن يجد في زواجه لحظات من السعادة.[23] لم تنجح خطة مينو في اقناع الأهالي بمنطق الأخوة التي آمل أن تجمع المصريين بالفرنسيين وتقارب بينهم في الدين والمستعمرة الجديدة. وقد نظر إليه الجميع (مصريون وعثمانيون) على أنه محتال ومدع بالإسلام.

والعثمانيون عند انسحاب الجيش الفرنسي، خلال صيف 1801، سوف يطالبون بتسليم زبيدة إليهم لمعاقبتها، جرياً على ما قاموا به في القاهرة من أعمال انتقامية دموية ضد النساء المتداخلات مع الفرنسيين[24]: بعضها بطريقة كسر الرقاب أو الإذن بخنقهن[25]، كما أقدم الصدر الأعظم على إغراق عدد كبير منهن في النيل![26] وتلك المشاهد الانتقامية تعكس بلا ريب موقف العثمانيين من تلك الظاهرة.

والفرنسيون، من جانبهم، لم يرحب عدد كبير منهم كذلك بزواج مينو من فتاة مسلمة؛ فبالنسبة لهم تسببت زبيدة في تضحية الجنرال بديانته المسيحية، وأخذت أصوات التنديد تتعالى، فقد كتب الضابط جوزيف ماري مواريه في أوراق مذكراته عن ذلك بصوت يفيض بالمرارة والسخرية:” مينو ذلك الرجل المرتد الذي دخل في شريعة محمد، وارتدى العمامة، وربط مصيره وعواطفه بامرأة من هذا البلد”، وتساءل ساخراً ” هل سوف يفكر القائد العام مينو في التخلي عن عائلته الجديدة حين يعود من جديد إلى فرنسا حيث سيستهزأ به هناك؟! “.[27] وقدم دوق راجوزا Duc de Raguseشهادة أخرى بأن فكرة مينو لم يكن مآلها سوى الفشل:” لقد حدث عكس ما تصوره، فهذا الزواج السخيف جعل مينو محتقراً في عيون الجميع”.[28] وبالغ البعض الأخر في الأمر إلى حد وصف زبيدة بأنها امرأة قبيحة تزوجها من دون أن يراها؛ ولنستمع إلى ما كتب المهندس بيير دومنيك مارتان (أحد علماء الحملة)، في مذكراته: ” لم تكن هذه المرأة شابة، ولا جميلة، ولا غنية، وليس لها أي اعتبار اجتماعي… فما الدافع الذي جعل مينو يقوم بعمل غير عادي على هذا النحو؟”. [29]

وغير خافٍ، أن النقد الذي وُجِهه لمينو لم يكن ليغمطه حقه، كسياسي وكولونيالي بارع، حتى وإن كانت غالبية المراقبين قد أجمعوا على محدودية كفايته العسكرية، فإسهاماته في مجال إدارة المستعمرة وإعادة تنظيمها تؤكد كفايته في هذا الجانب. لكن لسوء حظه، أن المشروع الاستعماري كان محكوماً عليه بالفشل. وفى هذا السياق تم تقديم صورة لمينو مبالغ فيها، استهدفت بكل تأكيد النيل من كفاءة الرجل وتحميله جزءا مهما من نتائج الهزيمة وفشل المشروع.

والأمر نفسه بالنسبة لزبيدة، فكل الأصوات المندفعة والمنددة بحادثة الزواج، رسمت لزبيدة عن قصد ملامح تُسيء إليها كما تحط من مكانتها، وذلك برغم أنها كانت من بيت كريم ينتمي لكبار أعيان المدينة، وكانت من الأشراف، ومشهورة بالجمال بين بنات جيلها، حتى لقد قيل في زمانها ” الجمال في بيت البواب “. وباعتراف مينو نفسه في أحد مكاتباته حين سأله مارمون (أحد جنرالات الحملة):” إنى تواق لأن أعرف هل مدام مينو جميلة، وهل في نيتك في القريب العاجل أن تتحفها برفيقات لها جريا على عادة أهل البلاد؟”. والواقع أن سؤال الجنرال مارمون كان سبباً في تسجيل مينو لصوته المعبر عن احساسه بجمال زبيدة وافتخاره به؛ إذ رسمت كلماته لوحة نكاد نرى ملامحها:” يا عزيزي الجنرال أن زوجتي طويلة القامة، مبسوطة الجسم، حسنة الصورة من جميع الوجوه، فلها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصري المألوف، وشعرها طويل فاحم، وهى لطيفة الطبع، وقد وجدتها تتقبل كثيرا من العادات الفرنسية بنفور أقل شيئاً فشيئاً.. ولن انتفع بما أباحه النبي من الزواج بأربع نساء خلاف السراري: فإن في النساء المسلمات شهوة حارة عنيفة، وفي زوجة واحدة أكثر من الكفاية لي”.[30]

***

الواقع أن كلا من زبيدة ومينو لم يكونا بعيدين عن إدراك ما يدور في الفضاء العام الذي اشتعل ضد زواجهما نقدا ورفضا وتنديداً. وبداهة كانت زبيدة أكثر قلقاً ورعباً إزاء موجة سخط غير عادية، تعبر عن خطاب إدانة لا يمكن تجنبه، بل باتت تلمح آثاره في عيون الناس التي ترمقها عند خروجها من بيتها، وبدأت تستمع إلى بعض همهمتهم حين كانت تمر بشوارع المدينة، كما لا نستبعد أن كاتبها الشيخ حسين الميقاتي، الأكثر قرباً من عائلتها، كان أحد مصادر معرفتها بما يجرى على ألسنة أهل المدينة من أقوال وإشاعات. وقد أيدها الميقاتي – كما سنري – في أن تكتب إلى مينو بوضوح تام عما يساورها من قلق إزاء تلك الأزمة.

(يتبع)


كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (1)

هوامش:

[1] تبلغ عدد الصناديق التي تحتوي على وثائق الحملة الفرنسية 199 صندوقا، ومحفوظة تحت رمز GR B6 armée d’Orient، وسوف نشير إليها اختصاراً. B6

[2] قام بهذا الجرد الاستقصائي للوثائق العربية ميشل توشيرير، الأستاذ المتقاعد بجامعة مارسيليا، وشكل فريقا من الباحثين المتخصصين، من بينهم صاحب هذا القلم؛ لدراسة هذه الوثائق وإعداد مشروع كتاب يتضمن مختارات منها. يشارك في هذا المشروع مؤسسات فرنسية متعددة: المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة IFAO، ومعهد الأبحاث والدراسات حول العالمين العربي والإسلامي IREMAM، والمعهد الوطني للبحث العلمي CNRS، وجامعة أكس مارسيليا Aix Marseille Université، بالتعاون مع أرشيف الوثائق التاريخية بوزارة الدفاع الفرنسية بقلعة فانسين في باريس. ويتوقع نشر الكتاب في 2025.

[3] B6 72 le 29 juillet 1801.

[4] B6 22 Menou au Divan, le 10 mai 1799; B6 22 Menou, général en chef, au Divan, le 7 mai 1799; B6 22 le 10 mai 1799 Lettre de Menou aux effendies juges composant le tribunal suprimé de la ville de Rosette.

[5] B6 64, le 4 mars 1801; B6 69, le 28 mai 1801.

[6] B6 17, le 17 jan. 1799; B6 22, le 12 mai 1799; B6 66 le 14 avril 1801; B6 69 le 29 mai 1801; B6 72 1 août 1801

[7] B6 35, le 11 nov. 1799, lettre de madame Menou à son mari.

[8] جواب من السيد على الحمامي إلى عبد الله جاك مينو ساري عسكر، ميكروفيلم: مجموعة وثائق من زمن الحملة الفرنسية خاصة خلال حكم الجنرال مينو – (Harvard University – M. 750).

[9] M. A. Corvisier, Ph. Schillinger, P. Waksman, Etat des fonds privés (dépots, donations, successions, achats), ministère de la Défense. Etat major de l’armée de terre, Service historique, 1981, introduction p. 6.

[10] انظر علي سبيل المثال توقيعه علي مسودة جواب (باللغة العربية) موجه إلى ديوان القاهرة،،1800B6 72, le 30 juil.

[11] نشر على بهجت وثيقة عقد زواج زبيدة بمحكمة رشيد وترجمها للفرنسية بكامل بنودها، انظر:

 Ali Bahgat, Acte de mariage du général Abdallah Menou avec la dame Zobaidah, p.228.

[12] Ibid.

[13] La JonquiéreL’ Expédition d’ Egypte, (Paris, Henry -Charles Lavauzelle, 1898 -1907, cinq tomes), t. 5, p.15.

[14] كرستوفر هيروالد، بونابرت في مصر، ترجمة فؤاد أندراوس، ومراجعة محمد أنيس (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، ص 384.

[15] نقولا الترك: ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية، (بيروت: دار الفارابي، 1990)، ص 140 -141.

[16] عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، (القاهرة: طبعة دار الكتب المصرية، 1998)، ج 3، ص 263. 

[17] الجبرتي: عجائب الآثار، ج 3، ص 262- 263.

[18] لاحظ فيوتو أن المقاهي كانت الساحة التي يتجمع بها المرتجلون والمحدثون والزجالون؛ بسبب الجمهور الكبير الذي يتجمهر حولهم، ويقوم بتشجيعهم ومكافأة مواهبهم. ومن دون شك كانت المقاهي أحد النوافذ التي أطل منها فيوتو على ما تناقلته ألسنة المصريين من أزجال وأغاني وحكايات وأراء، تشكل في مجموعها حالة الرأي العام، إزاء ما كان يجرى من أحداث وتطورات بالمدينة. انطر: فيوتو، ” الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين “، منشوراً في كتاب وصف مصر، ترجمة زهير الشايب، (القاهرة: طبعة مدبولي للنشر، 1983)، ج 8، ص216.

[19] فيوتو، المصدر السابق، ص 145.

[20] بشأن حماية الست نفيسة للحريم المملوكي ودفع مال المصالحة لتفادي مصادرتهن، انظر دراسة ناصر أحمد إبراهيم، “التاريخ الاجتماعي للجواري في مصر قبيل عصر التحديث، نفيسة خاتون المرادية نموذجاً ” منشورا في: دورية أسطور للدراسات التاريخية (الدوحة، المركز العربي للأبحاث والدراسات، العدد 1 يناير 2015)، ص 105 -107.

[21] كرستوفر هيروالد، المرجع السابق، ص 384.

[22] عبد الرحمن الجبرتي، مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس، تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، (القاهرة: 1998، طبعة دار الكتب المصرية)، ص 202. 

[23] B6 21, le 12 Avril 1799, Poussielgue au general de division à Rossette, (Menou). 

[24] Reybaud, Louis, Histoire scientifique et militaire de l’expédition française en Égypte, Tome VIII, (Paris, 1830- 1836), pp. 370 -371.

[25] الجبرتي: عجائب الآثار، ج 3، ص 306 -307 (يومية 24 ربيع الأول 1216/ 4 أغسطس 1801).

[26] Martin, P., Op. Cit, t. 2, pp.302 – 303.

[27] جوزيف ماري مواريه، مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية، ترجمة كاميليا صبحي، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة – المشروع القومي للترجمة، 1999)، ص 166.

[28] Didier Ferrand, L’Étrange Mariage d’ Abdallah Menou, Revue des Deux Mondes, (Paris 1 er Mai 1965), p. 118.

[29] Martin, P., Op.Cit, t. 2, p.140.

[30] La Jonquiére, Op. Cit, t. 5, p.662 – 663.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.