اللوحة: الفنان المكسيكي غيرهاردت إسرينجهاوس
اقتربت من قسم الشرطة لتقديم بلاغ اختفاء، إذ مر على غيابها أكثر من ثماني وأربعين ساعة، بحثت عن مبررات، تلمّست أعذارًا كثيرة بعضها لا يصمد أمام المنطق. لكني عزمت أمري وانطلقت إلى القسم، أخرجت بطاقة رقمي القومي على الباب الخارجي، لم أنتظر أن يسألني جندي الحراسة، إذ ظل يساورني قلق غريب، تنازعتني هواجس لا أول ولا آخر لها، حتى أيقنت أن شياطين الجن كلها ومعهم كبيرهم يتخذون من رأسي ملعبًا للهوهم.
- سألني الأمين: أؤمر؟
– جئت لتقديم بلاغ اختفاء.
– من اختفى؟ ما صلتك به؟ كم مضى على اختفائه؟
أمطرني بأسئلته، وهو يفتح على جهاز كمبيوتر أمامه صفحة فارغة، نظر لي في اهتمام أن أكمل!
ما إن بدأت في الإجابة، حتى ضاع صوتي الخفيض بتأثير زعيق سيدة تندفع من البهو الخارجي للقسم، تولول، تندب، تطالب أن يغيثها أحد، التفت الجند إليها، جذبوا لها كرسيًّا لتجلس، آخر أحضر زجاجة مياه باردة، ثالث أخرج منديلًا ورقيًا قدمه إليها.
الجلبة لفتت نظري، أدرت رأسي لأشاهد مع المشاهدين، معنا أمين الشرطة وقد توقف عن الكتابة، صاح فيها بصوت راعى فيه إنسانية ليس مكانها هنا، قال: تحت أمرك يا هانم؟
قالت وهي تشير إليّ وقد التقت أعيننا للمرة الأولى منذ أن دَخَلتْ القسم: أريد أن أتقدم ببلاغ اختفاء في حق هذا الرجل وأشارت إليّ بكل جوارحها، أكملت وهي تتجرع من الزجاجة والمياه تنساب من فمها إلى رقبتها، إلى الوادي العميق أسفل العنق، أكملت ويدها تضطرب بشدة: يومان وهو غائب عن عالمه الافتراضي، اختفي بإرادته عنّي وعلى رغم منّي.
قلت: كأني أعرف هذه المرأة، كأن صوتها غير خافِ عليّ، كأنها بُعثت حيّة من صفحتها الافتراضية إلى واقعي الآن.. توالت “كأن” على رأسي حتى أظنني غبت عن الوجود لحظات، ثم عُدت بعدما رمقني أمين الشرطة بنظرة حادة، أغلق صفحتي، ثم فتح صفحة جديدة راح يملأها ببيانات المرأة، نظر إليّ بكراهية، أزاح رأسه ناحية المرأة، قال: أكملي….
