اللوحة: في مدينة «رشيد» نهاية القرن الثامن عشر للفنان الإيطالي لويجى ماير
تحاول هذه الدراسة تقديم مقاربة حول تاريخ الأصوات من خلال قراءة تحليلية لأربعة جوابات، تعود إلى زمن الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر. تغطى هذه الجوابات أزمة تعرضت لها فتاة مصرية تدعى زبيدة ابنة محمد البواب، مع أهالي مدينتها رشيد؛ بسبب زواجها من أحد كبار جنرالات جيش الاحتلال. ولم يشفع لها اشتراطها وقوف الجنرال أمام ساحة القضاء الشرعي وإعلان إسلامه.
كانت زبيدة تنتمي لأعيان الطبقة الوسطى، وكان مينو بحكم منصبه والمهام العسكرية التي كان يُكلف بها، يضطر بين وقت وآخر لمغادرة رشيد، وكانت كتابة الجوابات هي وسيلة التواصل الأساسية بينهما، ومن هنا مثلت جوابات زبيدة – مينو مصدرا مهما يمكن أن يكشف الكثير مما نجهله عن قصتهما التي لطالما صيغت بأقلام المراقبين والمعاصرين لها، والذين كانوا في الغالب رافضين لها ولزواجها من مينو، ما جعلهم يرسمون لزبيدة ملامح مصطنعة ابتعدت في جزء كبير منها عن الواقع التاريخي: فهل تمكننا دراسة هذا المصدر من العثور على زبيدة من جديد، واستعادة بعض آثار صدى صوتها لتحكي بنفسها، ولتتكلم بصورة عفوية عن جانب من سرديتها، لعلها تكشف لنا جزءا من حقيقتها (الغائمة)، بما يمكن معه عمل مراجعة نقدية للصورة السائدة عنها؟ ذلك هو السؤال الإشكالي الذي نحاول معالجته في هذه الدراسة.
فعل الإملاء: من صوت زبيدة إلى مداد الكاتب
في الحقيقة ليس لدينا معرفة دقيقة عن مستوى معرفة زبيدة للقراءة والكتابة، وبصرف النظر عما إذا كانت تتعافى الكتابة بخط يدها، أو أنها آثرت أن تُملي جواباتها؛ نظراً لمكانتها الاجتماعية أو ربما قناعاً لخطها السيئ أو أنها كانت في الأخير لا تعرف القراءة والكتابة بالشكل الذي يمكنها من الاعتماد على نفسها، فإن دلالة استعانتها بالكاتب، تجعلنا أمام “مشهد صوتي” كامل، مثلته عملية الإملاء التي تخلَّلها حوارات مع كاتبها الميقاتي، فيما يتم تدوينه من مفردات وعبارات وما يتعين استبعاده أو تعديله أثناء الكتابة. لقد كان الإملاء معبراً عن مسار شفاهي من التحدث الكلامي. ولابد من القول إن فعل الإملاء في النهاية، جعلنا محظوظين بإمكانية استعادة شيء من صوت زبيدة عبر كلماتها المنطوقة التي ألقت بها على مسامع كاتبها.
ومع حرصها على تدوين كلماتها المنطوقة والمغلفة بأنفاسها، والذاهبة بلا تردد إلى هدفها، التزم الكاتب بمتابعة كل ما كان يخرج من بين شفتيها من كلمات، محولاً الإملاء إلى نص احتفظ بإيقاعات الشفهية، وبشحنة من عاطفتها الخاصة. ودلل ذلك على أثر التواصل الشفهي بين الكاتب وصوت زبيدة، وكيف استوعب الكاتب صورة صوتية وهو يتتبع نسخه لكلمات صاحبة الجواب. ومن هنا فإن فعل الإملاء كان في قلب عملية التأريخ لأثر صوت زبيدة وحفظ كلماتها المنطوقة (العفوية) التي صاغتها دون تكلف أو تنميق إنشائي.
وإذا كان الجواب المُملى يفترض بالضرورة تسليم الذات التي لا تملك القدرة على القراءة والكتابة، أو تعاني من نقص الخبرة بمجال الكتابة، أن يصيغ لها أحد الكتبة فكرتها الأساسية بما يناسبها من مفرداته أو وفقاً لقاموسه الخاص، فإن جوابات زبيدة قدمت تجربة مختلفة: صحيح أدت عملية الإملاء ظاهرياً إلى اختباء زبيدة تحت مداد قلم الميقاتي، إلا أن القراءة التأملية للجوابات الأربعة، تظهر أنها امتلكت مساحتها (الصوتية) في قلب المحتوى، ودفعت كاتبها إلى استخدام مفرداتها في سياق مباشر مسموع؛ حيث عبرت كثيراً عن نفسها بصيغة المتكلم في النص، وكأنها تحاور مينو وجها لوجه، مختزلة كل المسافات: “قلتوا لنا انكم ما تبعدوا عنا الا تمانية أيام ربنا ان شا الله لم يطول عليكم غياب وتحضروا عن قريب والله تعالي يطيل بقاكم والسلام”. مثل هذه الاستراتيجية الكتابية التي اتسمت بها عملية الإملاء كانت تنقل زبيدة عبرها طريقتها في الحوار والكلام مع زوجها، كما احتفظت بسياقها الشفهي في الكتابة. علاوة على ذلك تختزن الجوابات سواء لزبيدة أو لغيرها، داخل نسيج الكتابة صدى لأصوات بعض الناس في زمانها، وبنفس سمات الكتابة الشفهية المختلطة، تلقي بظلالها كيف كان الناس يتكلمون عند أواخر القرن الثامن عشر.
إن رهان زبيدة على صياغة محتوى الجواب بصوت كلماتها واحساسها ومفرداتها البسيطة، أبعدها عن أن تستجيب للأسلوب الإنشائي لدى كاتبها، الذي سمحت له بمساحة محدودة في السطور الأولى من الجواب، ليمارس قدراته الاحترافية في بناء الشكل الإطاري للرسالة، فانفرد الكاتب بصياغة الاستهلال الأقرب للفصحى والكتابة الديوانية الشائعة التي تكثر فيها النعوت والألقاب؛ لنقرأ مثلا ما كتبه في أحد جواباتها بتاريخ 13 نوفمبر 1799: “قدوة الوزرا المكرمين وفخر الامرا المحترمين حضرة الاجل الأعظم والاعز الافخم جليلنا وعزيزنا سيدنا عبد الله باشه منوا ساري عسكر الجيش الفرنساوي اعزه الله وابقاه وجمع شملنا بروياه بجاه خير انبياه امين بعد تقبيل اياديكم الكرام والدعا لكم على الدوام...”.
لم تكن مثل تلك الكلمات لتتماشي مع أي نوع من الكتابة الحميمية (العائلية)، فتقبيل الأيادي ووصف الزوج بـ “سيدنا” ونعته “بالأجل الأعظم والأعز الأفخم”…إلخ هي لغة كاتب ملتزم بالشكل الإنشائي لكتابة رسالة، وليست مفردات زبيدة وثقافتها الشفهية التي نلاحظها بوضوح في المحتوى، والتي اعتمدت على الكتابة بالعربية الوسيطة الأقرب للغة الناس العاديين، والتي شاعت في كثير من وثائق الحملة.
إذن بدت تلك الكلمات الاستهلالية، معبرة عن صوت الكاتب وقاموس كلماته الإنشائية الجافة. ودون تلك المساحة المحدودة، امتلكت زبيدة عملية الإملاء فعلاً وتوجيهاً وصوتاً، في اختيارها للكلمات والمفردات المشبعة بالشفهية المباشرة والمسموعة، التي تعبر عن ذاتها وروحها الحميمية، وبما يتوافق مع قاموس حياتها اليومية. ودللت مساحة كلامها على أنها لم تكن الفرد “المؤنث”، الموسوم بالصمت والخجل؛ القابع خلف تقاليد صارمة، تلزمها الاكتفاء ببضع كلمات قصيرة تطلقها أمام ناظري كاتبها بشيء من السرعة وبعضٍ من الحياء؛ إذ لم تكن زبيدة من هذا النوع من النساء، فوفقا لنصوص جواباتها لم تجد نفسها مضطرة، تحت سطوة تلك التقاليد، أن تصيغ عباراتها بطريقة تحفظية مختزلة أو مقيدة. وقد يعكس ذلك ملمحاً من شخصيتها ومبلغ ثقتها بذاتها وهى تتواصل مع زوجها، وتكتب إليه بما يتراءى لها قوله أو تدوينه، ووفقاً لما تسمح به حدود اللياقة الضرورية.
باختصار أدى صوت زبيدة واتساع مساحة النص لمفرداتها ووعيها بإحكام صياغة الجواب على طريقتها المباشرة وغير المتكلفة، إلى إلزام قلم الكاتب على الاستجابة لكل حرف أو كلمة تفوهت بها خلال عملية الإملاء، ما جعل الجواب أقرب إلى “النص المنطوقة”. لقد ظل دور الكاتب محدداً – بالنسبة لها – كوسيط في تحرير الإملاء بما أرادت توصيله إلى مينو.
ومهما كانت علاقة الميقاتي بعائلة زبيدة، فإنه في وضع “الغريب” الذي يتعين أن تُبدى تجاهه درجة ما من التحفظ بشأن ما يمكن اطلاعه على دقائق من تفاصيل حياتها الخاصة. ومن المؤكد أن ما أملته على كاتبها، كان جزءاً مما كانت تحس به وتتمنى لو يمكنها جعل إحساسها يتدفق بصورة تلقائية على الورق وبكل الكلمات والهواجس التي كانت تُحدث بها نفسها خلال فترات غيابه عنها. وبالرغم من إدراكها لهذه المسافة الفاصلة بينها وبين كاتبها، وحفاظها علي أدق التفاصيل التي تحكمت أن تبوح بها، استطاعت أن تحرر صوتها، وعرفت كيف تجعل جواباتها مساحة للتعبير الشخصي: فقررت أن تؤسس لنفسها حضوراً صوتياً قوياً في مساحة واسعة من النص، ولم تترك للكاتب صياغة فكرة الكتابة بمفرده، استناداً لقاموسه الشخصي هو أو وفقاً لخبرته باللغة المعيارية متعددة الطبقات التي لا تجيد زبيدة التحدث أو الكتابة بها أو ربما بما لم تجد فيها صورة حقيقية في التعبير بكلمات بسيطة تعبر عن روحها وصوتها الداخلي.
في ضوء ذلك نفهم لماذا جاء الاستهلال بلغة إنشائية صريحة من كلمات الكاتب، فيما غلب على صياغة قلب المحتوى، في الجوابات الأربعة، كلمات زبيدة نفسها التي تنتمي إلى قاموس “العربية الوسطى” أو المختلطة التي تمزج قليلاً من الفصحى بكثير من العامية المنطوقة، الأقرب إلى لغة كلامها على مستوى حياتها اليومية، وهو أيضا المستوى الأكثر قبولاً واستخداماً لدى قطاع كبير من المجتمع في زمانها.
لقد عرفت بكلماتها البسيطة والمختارة بعناية كيف تقود عملية الإملاء، وكيف تجعل صوتها حاضراً لا يغيب، وحتى إذا عدلت كلمة جعلت كاتبها يشطبها بمداد خفيف، ويستدرك الإملاء سريعاً وفق ما تحدده كلماتها، وهو ما يعطي مؤشرا على وجود حوار مع الكاتب، امتلكت فيه زبيدة مسار توجيه عملية الإملاء وبناء الصياغة. ومن دون شك، اعطى ذلك انطباعاً للمتلقي (سواء مينو أو ترجمانه) عند إلقائه نظرة على صفحة جوابها، أنها لا تكتب مسودة أبداً لمراسلاتها، وإنما تُطلق كلماتها وفقاً لما تُمليه وبما تريد ايصاله وبالشكل الذي يعبر عن أصالة ذاتها وروحها وإحساسها. إن وجود الكاتب أو حتى الترجمان الذي سيطالع مكاتباتها عند شروعه في ترجمة جواباتها لزوجها، لم يعقها عن البوح بما أرادت صياغته وتوصيله وبالطريقة الأقل تحفظاً – إلى حد ما – التي حددتها لنفسها في إملاء جواباتها. ومن دون شك، فإن فعل الإملاء الصوتي ساعد على احتفاظنا بأثر مكتوب لزبيدة، وبرصيد من صدى صوت محفور في ذاكرة كلماتها المنطوقة.
النميمة كحدث صوتي: أزمة نوفمبر 1799
إن قراءة جوابات زبيدة، على قلة عددها، والمدة الزمنية المحدودة (أربعة جوابات في ستة أيام)، تقودنا إلى مسألة “غياب الجنرال” كحدث فجر أزمة عميقة بين زبيدة وأهل مدينتها. وكل جملة وكل كلمة نقرأها أو بالأحرى نستمع إليها، كانت تشكل جزءا من صوت داخلي، يعبر عن حقيقة ما كانت تمر به. بدت زبيدة وكأنها تخوض معركة أكبر من قدرتها، فهى لا يمكنها أن تنعزل بعيدا عن أهل مدينتها، وأنها على النقيض من ذلك، يتعين أن تحتفظبرصيدها الاجتماعي بينهم، وأن لا تقطع جسور علاقتها بهم. في هذا السياق يمكن أن نفهم سبب اهتمامها بما كان يجرى على ألسنة الناس في شوارع المدينة.
إن انعكاس قلق زبيدة في الجوابات جعلنا نحس بكلام أهل رشيد عنها وكأننا نسمعهم، وأن نحس بتوجع زبيدة وآهاتها وكأننا نراها قبل أن نقرأ كلماتها ونحس بصوتها. أخبرت مينو بامتناعها عن الطعام والشراب: ” لم عمال ندوق الزاد من كلام الناس”، وأن أيامها الحزينة في بعاده عنها حرمتها راحة البال: “ولم يهنى لنا عيش في بعدكم عنا… لأننا حاصلين في غم زايد من قبل ذلك”. بدت كلماتها كلوحة صوتية، تنطق بحال امرأة حزينة، تخشى الرأي العام المثار ضدها، وتفكر طوال الوقت كيف تخفض حدة هذا النقد، وكيف تحصر الشائعات حولها في نطاق ضيق إن لم تستطع ايقافها بالكلية، وأن تثبت للجميع صورة مختلفة عن زواجها وارتباط مينو بأهل بيته.
على حين كان الأمر بالنسبة لمينو مختلفاً؛ فهو كجنرال تتعدد مهامه العسكرية والإدارية. كان مسئولا عن مراقبة السفن الإنجليزية على طول السواحل المحاصرة؛ كي يتصدى لها في حال حدوث أي اختراق من قبل العثمانيين أو اﻹنجليز، كما أنه كان مكلفاً بحكم وإدارة إقليم كبير (رشيد الإسكندرية وريف إقليم البحيرة المترامي على طول غرب الدلتا)، وكانت مشكلة تأمين الإقليم، ومشاكل الفلاحين في الريف، وضبط الطوابير العسكرية وسريانها بين القرى في جباية الضرائب، ومراقبة سواحل أبو قير والإسكندرية، مسئوليات ثقيلة، اقتضت منه أن يكون في حالة تيقظ ومراقبة وتنقل من مكان إلى آخر بشكل مستمر، بحسب توجيهات وأوامر القائد العام، وبحسب أيضا ما كان يواجهه من مشكلات وأي تحديات طارئة.
وبرغم تقدير زبيدة لطبيعة عمل زوجها كجنرال مسئول، إلا أنها كانت على قناعة بأن فكرة زواجها من جنرال محتل ستظل غير مستساغة أو مقبولة، فالأهالي لم ينظروا إلى مينو نظرتهم إلى زوجها السابق سليم أغا نعمة الله التركي، فلا تزال الأذهان منصرفة إلى أن العثمانيين هم أصحاب السلطة الشرعية في البلاد، وليسوا في وضع المحتل الأجنبي (المسيحي) الذي يمثله مينو بكل تأكيد، وذلك على الرغم من إشهاره الإسلام. ولذلك فإن أزمتها مع مجتمعها والتي أطلقت عليها “كلام الناس”؛ لن يكون بمقدورها مواجهتها بمفردها، كما لا يمكنها إسقاط الناس من اعتبارها، وبالقدر نفسه لا يمكنها أن تصطدم بهم، علاوة على أنها أضعف من أن يكون بمقدورها تغيير موقف الناس وتصوراتهم عنها في تلك الفترة المشحونة بالغضب الشعبي من الاحتلال.
ولم تكن القراءة الواقعية من جانبها للأزمة، لتختزل في حدود إشاعات سلبية بسيطة أو مجرد أحاديث تُقال هنا وهناك، إذ كان يتم تداولها على ألسنة الناس في شوارع المدينة، وتزداد قوة واشتعالا كلما طال أمد غياب الجنرال. ومن يوم إلى يوم، كانت زبيدة ترى أن “الثرثرة” تزداد في الفضاء العمومي قوة وألماً بالنسبة لها.
والثرثرة بلا ريب “حدث صوتي” انبعث من شوارع رشيد وحواريها ودروبها المتعرجة، ليحاصر بيت زبيدة التي لم تكن في معزل عن مجتمعها. لقد كانت انتقادات الناس تعبر عن حالة رأي عام؛ ولذا ارتأت الدفع بمينو إلى أن يضعها في “الحقيقة” ولا شيء سوى الحقيقة. إن كل يوم يمر في غيابه، يُكسب أصوات مروجي النميمة والإشاعات قوة في الانتشار ومصداقية متوهمة، وهو ما لا تطيق تحمله، كما لا يمكنها أن تصم آذانها عن سماعه؛ ولذلك كتبت إليه تلح في الإجابة على سؤالها، وأنها تنتظر رده في أقرب وقت ممكن: “ونحن بانتظار جوابكم بالدقيقة”. دلل ذلك على اختلاف نطاق الصوت عند زبيدة، وتأثره بحالتها المزاجية؛ فكان من المتوقع أن ينعكس ذلك في تغيير شدة نبرة الصوت في كلماتها المعبرة عن روحها وشعورها بدرجة من التوتر والارتباك.
في سياق تلك اللحظة، تفجرت لدي زبيدة الرغبة في تكثيف الكتابة إليه؛ لتضعه في قلب الأزمة التي مسَّت في أحد جوانبها كرامتها، كما عكست بعضٍ من مخاوفها. والناس هم الناس، من أهل مدينتها التي كانت تأمل أن تلقى يوماً دعمهم، وتفهمهم لوضعيتها التي صارت إليها: فهى على كل حال، لم تتزوج سوى برجل مسلم، وشهد الجميع هذا الزواج الذي استوفى أركانه الشرعية. ومن جانبها كانت تتمنى أن يتحقق على يدي مينو (كحاكم مسلم) أحداث وقرارات تعود بالنفع العام على أبناء مجتمعها: ففي منظور الناس، لا يزال مينو تحت الاختبار، فيما يتعلق بسلوكه معهم كحاكم مسلم، وليس كجنرال يحكم باسم جيش الاحتلال. ومن هنا كانت زبيدة ترفع يديها إلى السماء وبصوت صريح تدعو له في الجوابات: “ربنا ان شا الله يسهل عليكم ولم يجعل لكم عاقه ويجري على يديكم الخير للمومنين”. بيد أن تغيير الصورة الذهنية عن إسلام مينو في الفضاء العمومي، أمر مرتهن بما يمكن تحققه فعلياً على أرض الواقع وتلامسه أيدي الناس، وهو ما لم تملك زبيدة حياله أي قوة أو فعل.
وإذن أدى حدث الصوت المنبعث من النميمة (كلام الناس) إلى تحريك الأحداث بين رشيد والإسكندرية والقاهرة، في عصر كان الكلام والصوت والثرثرة المادة السحرية التي تجرى على ألسنة الناس، بل كانت تشكل أحياناً أحد أسلحة مقاومتهم للمحتل. ألم ينزعج بونابرت نفسه، وهو القائد العام للجيش، من أصوات عوام المصريين، وهم يصفقون ويطلقون الصيحات بألفاظ وكلمات وإشارات باللمز والغمز، حين كان يمر بهم جنود فرنسيون مثخنون في جراحهم، مما كان يثير حفيظة بونابرت وضباطه، فيسارع إلى إصدار أمر يومي بالتحذير من تكرار مثل هذه الأفعال. وقد رصد الجبرتي في يومياته حركة المنادين في الشوارع بالتحذير من التصفيق واطلاق الأصوات الساخرة: ” نادي أصحاب الدرك على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم”4. لقد كانت مواجهة الرأي العام من أصعب المعارك التي يمكن للمرء أن يخوضها وخاصة في لحظة احتلال ثقيلة ومؤلمة.
في جوابها الأول، آثرت زبيدة أن ترسم لمينو بإحساسها صورة تعكس تمثيلاً بصرياً لما باتت تعانيه؛ حيث أصبحت بمفردها في فضاء المكان ووحشته: “البيت من غير حضوركم سكتة وظلام”. وعلى الرغم من بساطة التعبير، إلا أن الكلمتين تحملان نطقاً مخمليَّاً ناعماً، يمكن للمرء أن يحس بتأثيرهما بمجرد أن تقع عينه على قراءتهما. يندرج ذلك تحت ما يُطلق عليه “عاطفية الصوت “L’affectivité de la voix، تلك التي تنقل إلينا نطقاً مغلفاً بإحساس الفاعل التاريخي. وبالرغم من تناقض كلمتى “سكتة وظلام” مع فكرة الصوت والحركة، إلا أنهما رسمتا مشهداً دقيقاً في عمق البيت من الداخل، لامرأة تحاصرها وحدتها، رغم وجود أهلها إلى جانبها. في الجانب الآخر من الصورة، تذكره بأنها تحس به وبوحدته في شتاء الإسكندرية القارص، وتكاد كلماتها تنطق بصوت يملأه الدفء: “ولا قلبنا الا عليكم في هذا الشتا“.
من ناحية أخرى، شكل دعاؤها المكثف له حضوراً أساسياً في بنية الكتابة. والدعاء صوت ومناجاة واستراتيجية كتابية في أدبيات كتابة الجوابات. وبقدر ما تطلق صرخة استغاثة إلى السماء أن تضع حدا لأزمتها، بقدر ما يمثل الدعاء عندها تحريضا لمينو على سرعة الاستجابة لمطلبها: “ربنا ان شا الله لم يطول عليكم غياب وتحضروا عن قريب والله تعالي يطيل بقاكم”. واستثمرت مساحة الدعاء كذلك في الإيحاء بأن عودة أيام البهجة والفرح التي تزين بيتها، مرهونة بعودته هو، وانضمامه إليها: “وربنا يجمعنا بكم في اسر الأيام عن قريب”. بيد أن الدعاء أيضا كاشف عن شيء من مخاوفها، أن يُصيبه مكروه، قد يمنعه عن الوصول إليها، ويربك كل حساباتها: “وان شا الله تعالي ربنا يسهل عليكم الأمور الصعاب وتحضروا الى طرفنا عن قريب لان ما قلبنا الا عندكم… فانكم طولتوا غيابكم عنا ومنتظرين حضوركم”. ويعد هذا التكرار في الأدعية أحد آثار الشفهية في كتابتها.
وبالقطع مثل تلك الصورة ببعدها النفسي ما كان لنا لنتحصل عليها لولا تلك “الكلمات التي تفيض بثراء تعبيري للصوت”، وهو ما يبين إحدى سمات الجوابات المملاة، التي يمكن معها أن تنقلنا إلى مساحة من إحساسها الداخلي بالقلق، وتحسبها لحالة عدم الرضى عند أهل مدينتها التي لم تتقبل يوماً فكرتي “المصاهرة” بين الأمتين المصرية والفرنسية، و”الأخوة ” الجامعة التي دعا إليهما مينو من موقعه كمستعمر، يريد التمسك بمستعمرة مصر تحت كل الظروف الصعبة بل والمستحيلة.
بيد أنها وبسبب مخاوفها من الرأي العام من حولها، كان كل يوم يمضي عليها ثقيلا، لذلك طالبته بأن يظل على تبادل الرسائل معها، يحيطها بأخباره أول بأول وألا يتركها فريسة لأفكارها القلقة أو لانتظار طويل: “ولا تقطعوا عنا اخباركم لاجل الطمان عليكم فانكم طاولتوا غيابكم عنا ومنتظرين حضوركم لانكم قلتوا لنا انكم ما تبعدوا عنا الا تمانية أيام ربنا ان شا الله لم يطول عليكم غياب وتحضروا عن قريب والله تعالي يطيل بقاكم“.
وحين لم تجد منه، في الأيام الأولى من كتابتها إليه، تحديداً لموعد عودته، وأيام الصبر والحزن تمضي بطيئة وثقيلة، فيما حرب النميمة وحريقها يزدادان اشتعالا حولها، وخاصة أن نسوة في المدينة تعرضن لها بالهمز واللمز، وهن يرددن على ألسنتهن: ألم تكن من قبل قد طُلِقت5، فما بال الرجال يهجرن مَخدعِها؟! لذلك راحت تمطره، خلال شهر نوفمبر 1799، “بجملة مكاتيب” على حد قولها، وإن كانت هذه الجوابات لم تصلنا، لكن نداءها (الصوتي) الوحيد في الأغلب كان في المسار نفسه: المناداة بعودة الجنرال في أقرب وقت؛ كي تخرس كل الألسنة التي ما فتأت تتحدث عنها، واتهام الجميع لها بأنها ساقت نفسها إلى مغامرة أقرب إلى الخطيئة، خطيئة – من وجهة نظر الناس في مدينتها – يتعين أن تتحمل وحدها ثمنها خصماً من مكانتها إزاء جنرال محتل للبلاد “مدعي بالإسلامية.. ذا احتيال ومكر” على حد وصف أحد المراقبين6.
ولذا كان رهانها مع الوقت أن تأتي به سريعاً إلى رشيد، وأن تثبت لأهل المدينة أن الجنرال يتمسك ببيته، وأنه يُقدر ارتباطه العائلي بها وببيتها، وأنه ليس كباقي الجنرالات والضباط الذين اقبلوا على الزواج من قبيل البحث عن المتعة والراحة في زمن الحرب والاحتلال، كما كان بعضهم – بحسب شهادة الجبرتي- يبحث عن الثروات خاصة مع جواري البيوت المملوكية الذين “دلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك”7.
(يتبع)
كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (3)

وثيقة عقد زواج مينو في محكمة رشيد بتاريخ 27 رمضان 1213 – 2 مارس 1799

غلاف جواب زبيدة بتاريخ 16 نوفمبر 1799 وعليه آثار الشمع الأحمر ما يؤشر إلى أن جواباتها لم يطالعها سوى زوجها
هامش:
1 قدمت مديحة دوس نموذجا لاستخدام العربية الوسيطة في وثائق الحملة، وقد سادت معظم وثائق تلك الفترة، انظر: مديحة دوس “الأوامر والمنشورات ثنائية اللغة في زمن الحملة الفرنسية”، منشوراً في: مائتا عام على الحملة الفرنسية (رؤية مصرية)، تحرير ناصر أحمد إبراهيم، (القاهرة: مكتبة الدار العربية للكتاب، 2008)، ص 195- 213.
2 ناقشت نلل حنا هذه المسألة ودلالاتها وأسباب شيوعها في لغة الكتابة، انظر الفصل الثاني الرائع في كتابها: مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500 – 1800، ترجمة مجدي جرجس، (القاهرة، المركز القومي للترجمة 2016)، ص 55 – 106.
3 شطب الكاتب على بعض الكلمات بمداد خفيف ثم استدرك تصحيح الكلمات ومسار الإملاء وفق كلمات زبيدة الموجهة إليه، انظر على سبيل المثال جوابها الثاني:
B6 56 13 nov.1799, Lettre de Mme Menou à son mari le général Menou.
4 الجبرتي، عجائب الآثار، ج 3، ص 33 (يومية 15 ربيع ثاني 1213/ 26 سبتمبر 1798)
5 كانت زبيدة قد ُطلِقَت من ضابط عثماني يُدعى “سليم أغا نعمة الله” وذلك قُبيل احتلال الفرنسيين لمصر.
6 نقولا الترك، المصدر السابق، ص 140 -141.
7 عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 3، ص 263.
