الاستحداث اللغوي ليس خطأ دائماً.. والاقتباس عن الأجنبي ليس عجمة بالضرورة

الاستحداث اللغوي ليس خطأ دائماً.. والاقتباس عن الأجنبي ليس عجمة بالضرورة

اللوحة: الفنان السوري نافع حقي

د. مصطفى الجوزو

نقل أحد أصدقائنا منشوراً لغوياً فيه تخطئة لعدد من الاستعمالات، وأكثرها مما حفلت به كتب الأخطاء الشائعة، التي تَجوَّز أكثرها في أحكامه وربما جار. وقد سبق لي أن تناولت عدداً من هذه الاستعمالات في عدة مقالات. ولا نكران أن كثيراً مما في المنشور المشار إليه صحيح ومفيد، لكن عدداً من التخطئات يحتمل الاستدراك. وقد كنت أعتقد دائماً أنه يكفي شاهد واحد أو قياس صحيح للتدليل على صحة الاستعمال، وأن التخطئة تحتاج إلى استقصاء واسع وشامل، ومرهق في أكثر الأحيان، وهي لا تحتمل التسرع، ولا يجوز فيها النقل حتى عن العلماء إلا بعد دراسة وتمحيص، لأن العلماء أيضاً قد يخطئون، وقد انتقد كثيرون كتاب الحريري: درة الغواص، مع أن الحريري عالم مشهور.

1- ومما نبه عليه صاحب المنشور أمرٌ معروف وهو استعمال فعل «اعتبرَ» بمعنى عدّ أو حسِب، كأن يقال: اعتبر فلانٌ فلاناً عالماً، وصوابه عنده: عَدَّهُ عالماً، لأن معنى اعتبره هو اتخذه عبرة. والحقيقة أن هذه التفسير غير صحيح، ذلك لأنه يقال اعتبر به؛ إذا أريد معنى الاتعاظ، ولا يقال اعتبره. أما اعتبر بمعنى حسبَ أو عدّ ففيه كلام آخر. 

إن جذر عبر يدل، في الأصل، على النظر، فأصل اعتبر بالشيء هو نظر فيه ليستفيد منه درساً. ويقول اللسان: «وفي التنزيل: “فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأَبصار”؛ أَي تدبّروا وانظُروا فيما نزل بقُرَيْظةَ والنضير، فقايِسوا فِعالَهم واتّعِظُوا بالعذاب الذي نزل بهم […و] العابر: الناظر في الشيء، والمعْتَبِرُ: المستدلّ بالشيء على الشيء» (مادة: عبر). وقد توسع معنى النظر هذا إلى معنى التقدير أو الحكم على الشيء؛ ففي الحديث أن ابن عباس سوّى في الدية بين الضرس والسنّ، قائلاً: «لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالأَصَابِعِ؛ عَقْلُهَا سَوَاءٌ». أي لو لم تحكم عليها إلا بالقياس إلى الأصابع لوجدت أن عقلها (أي ديتها) واحد. ولذلك لا غرابة في أن يشيع هذا الاستعمال، وأن يرد في كلام اللغويين بكثرة، إذ نقرأ في كتاب سيبويه: «وإنما تَعتبِر أَزيادةٌ هي أم غير زيادة؟»، ونقرأ في لسان العرب متحدثاً عن أل التعريف: «فالذي يدل على أَنها لغير التعريف أَنَّا اعتبرنا جميعَ ما لامُه للتعريف فإذا إسقاطُ لامِه جائز فيه». ونقرأ أيضاً: «وكأَنه اعتبر هذا التفسير من لفظ البَعْل الذي معناه الزوج»، الخ. ونجد ذلك الاستعمال في نصوص أدبية متوسطة القدم، وفي قرارات مجمع اللغة العربية الكثيرة جداً، وفي المعجم الوسيط الصادر عن المجمع، وفي مصطلحات البلاغة، كقولهم: التشبيه باعتبار وجه الشبه. الخ. وفي كلام رجال القانون، وكلها يدل على النظر والتقدير والحكم وليس على الاتعاظ.

2- ونبه على صيغة «هَبْ أنّ» رائياً أنها خطأ لأن «أنّ» لا تجيء بعد هذا الفعل. وضرب مثلاً على ما يعتقده استعمالاً صحيحاً لهَبْ وهو: هبْ صحتَك قويةً فلن تضمنها غداً. وحقاً أن ابن سيده نهى عن استعمال أنّ بعد هبْ، لكن في نهيه نظراً، بدليل ما ورد في المسألة الحجرية أو المشتركة؛ إذ يروى أن زيد بن ثابت قال لعمر بن الخطاب: «هبْ أن أباهم كان حماراً»، وقد علل ابن يري هذه الصورة بحمل فعل «هبْ» على فعل «احسَبْ». كما أننا نقرأ في لسان العرب تعقيباً على طلب عمر، حين طُعن، أن يقوم للصلاة: «فهَبْ أنه قضى حَقَّ الصلاة فما بالُ الحُقوق الأُخَر؟». ولذلك أقر المجمع الصيغة المشار إليها. 

أما المثل الذي استعمله صاحب المنشور فلا يكاد يستقيم، وذلك لأن «هبْ» يدل على فرضية بعيدة الاحتمال أو مستحيلة كالذي في قول زيد بن ثابت المتقدم، وكقول بعض المختصمين في الميراث لعمر بن الخطاب، في القضية نفسها: «هبْ أبانا حجراً في اليم»، وكقول ابن همام السلولي: «وإِلاَّ فهَبْني امْرأً هالِكا» وكقول المتنبي: «هبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ منَ العِدى» على حين أن وفور الصحة ليس فرضية بل هو حقيقة غالبة في حياة الناس. هذا ونستطيع أن نفسر فعل هَبْ بمصطلح حديث هو افترضْ.

3- ونبّه على استعمال كلمة «مبروك» رائياً أن صوابه: مبارك. وذلك صحيح، لكن لمبروك مسوّغاً أيضاً إذ يقال: طعام بَرِيكٌ، أي مبارك فيه؛ وفعيل هنا في معنى مفعول، وكأن مستعمل مبروك يعود إلى الأصل اللغوي لبريك، ولعل الكلمة لغة مهملة بقيت في الاستعمال العامي.

4- ونبه على استعمال عبارة «بالتالي» موصياً ببدائل منها، مثل: من ثَمّ؛ لذا؛ وعلى هذا؛ وبذلك؛ إذن؛ أيْ. وقد أنكر مجمع القاهرة هذه العبارة أيضاً، وأوصى بقريب مما ورد في المنشور، وقد كنت ممن يتحاشى استعمالها، لكنني وجدتها مستعملة بكثرة، ولاسيما عند شوقي ضيف، وكان مرجعاً كبيراً، دع أنه تبوأ رئاسة مجمع اللغة العربية، ولهذا لم أجد في اتباعه ضيراً، لأن الاستنباط في ما لا لم تعبر عنه اللغة أمر محمود، وعبارة «بالتالي» اقتباس عن العبارة الفرنسية: par la suite التي لا تقوم العبارات التي اقترحها المجمع وكذلك صاحب المنشور مقامها. وإذا اردنا الاستعاضة من ذلك الاقتباس بغيره، فعبارة: بعدَ ذلك، تبدو أقرب إلى المعنى المراد، لكنها لا تشمله كله.

5- ونبه على استعمال عبارة «بما أنّ» وعدّها خطأ، ناصحاً في المقابل باستعمال «لما كان»؛ والحقيقة أن كلا الاستعمالين دخيلان؛ كما أن المثل الذي ضربه، أي: «ولما كنّا أنجزنا العمل وجب إعداد تقرير عنه» أو «فعلينا إعداد تقرير عنه» ليس من لغة العرب، لأن «لما» تقتضي فعلين ماضيين مثبتين صراحة أو ضمناً، كقولنا: لما رأيناك زاد سرورنا، ولا تحتمل معنى الاستقبال الذي في نحو عبارة «وجب إعداد تقرير» أو «فعلينا إعداد تقرير». كما أنها لا تحتمل معنى التعليل الذي في عبارة «بما أن» التي تعني عند مستعمليها: لأنّ، و puisque الفرنسية. 

وقد استعمل العرب كلمة «حيث» بقريب من هذا المعنى، ومن ذلك وصف الجاحظ لجُبن الذئب حين يدمى ويجرؤ عليه ذئب آخر فيأكله، إذ يقول معللاً هذه الظاهرة: «حيث لم يُعطَ الذئبُ قوةَ الأسد» أي لأن الذئب لم يعطَ.. ويقول في الكركدن: «وإنما جعلناه يروثُ حيثُ سمَّوْه حماراً» أي لأنهم سموه حماراً. ويقول الواحدي في شرح بعض شعر المتنبي: «وشربتُها غير آثمٍ حيث كان قصدي بالشرب بقاء الزوجية بينهما»، أي لأن قصدي كان… ونقرأ للقرطبي: «ثم قُلِبتْ الواو ياءً حيث صارت طرفاً»، أي لأنها صارت طرفاً. ونقرأ له كذلك: «إلا ما رُوي عن الأصمّ حيث كان عن الشريعة أصمّ»، أي لأنه كان … وينسب النويري إلى من يسميه عبد الباقي اليماني هذه العبارة المستقلة عما سبقها: «حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى»، أي لأننا رجعنا.. ويقول النويري نفسه: «وحيث انتهينا من ذكر المياه إلى هذه الغاية فلنذكر عباد الماء»، وذلك أيضاً في معنى لأننا انتهينا… ويقول الزبيدي في التاج: «وحيث إنها ثبتت في الأمهات كيف يقال فيها إنها زيادة غير معروفة أو إنها مضرة»، أي ولأنها ثبتت، ولذلك لا يستقيم ادعاء بعض اللغويين المعاصرين بأن حيث لا تصلح للتعليل، وربما اقتبس صاحب المنشور مقالتهم تلك.

وفي النتيجة، فليس كل مستحدث لغوي خطأ، بل قد يكون استجابة لحاجة تعبيرية أو فكرية ملحة؛ وليس كل أثر أجنبي عجمة، فقد تستوعبه اللغة ويصبح من ابنائها النافعين. ومن المؤكد أن المسلمين استحدثوا ألفاظاً وصيغاً لغوية لم يعرفها الجاهليون؛ وأن العباسيين ابتدعوا في اللغة ما لم يعتده الإسلاميون، وابتكر المتأخرون ما تجاوز لغة المتقدمين. كما أن من المؤكد أن اللغة العربية قد اقتبست ألفاظاً وصيغاً أعجمية، أغنت بها نصوصها، ولم تجد ضيراً في ذلك، سواء في الجاهلية أو الإسلام أو العصور العباسية أو العصر الحديث. ليس المهم مصدر العبارة أو تاريخها، بل التزامها معايير التعبير العربي إن نحواً وإن صرفاً وإن أسلوباً.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.