محمد ربيع
اللوحة: الفنان الإيطالي ماريو سيروني
اعتدت على التصرفات المفاجئة والغضب المنفجر من أبي بلا مقدمات، ومرت الأيام دون أن يبدو أن هناك طريقة أخرى لتعامله معي سوى تلك، لكن كل ذلك تغيّر في يوم واحد.
أذكر أني ذهبت مع أمي لزيارة إحدى صديقاتها المريضة في المستشفى، بعد دخولي المستشفى مباشرة شممت رائحة نفاذة، شيئًا ما كيميائي وغير طبيعي، أصابني الغثيان بعد دقائق. دخلت مع أمي إلى غرفة المريضة التي بدت ممتنة لزيارتنا. كنت قاعدًا إلى جانب أمي أقاوم الغثيان والتقيؤ، خفت أن أتقيأ فألوث أرضية الغرفة النظيفة. انتهت الزيارة ومشيت بخطوات بطيئة إلى جانب أمي. من معدتي خرج مقدار قليل من سائل حاد المذاق ووصل إلى فمي، جاهدت حتى لا أفلته وابتلعته، خفت أن ألوث أرضية المستشفى النظيفة. وعندما خرجنا إلى الحديقة الواسعة حول المستشفى تنفست بعمق وزال الشعور بالغثيان، لكن الخوف من التقيؤ ظل حاضرًا. بعد دقائق كنت أجلس في المقعد الخلفي في سيارتنا، أبي يقود وأمي إلى جانبه وأختى الصغيرة إلى جانبي، داهمني بقوة الشعور بالغثيان مرة أخرى، وأتى معه شعور بالخوف من التقيؤ وتلويث أرضية السيارة النظيفة. قاومت كثيرًا، وابتلعت القيء عدة مرات، فكرت أن أطلب من أبي أن يوقف السيارة لأتقيأ، لكن الخوف من غضبة مفاجئة منعني من الكلام، وفي النهاية عندما عجزت عن بلع القيء فتحت باب السيارة وتقيأت خارجها.
فوجئ أبي بما فعلت، وصرخت أمي كي أغلق الباب، ولامتني لأني فتحت باب السيارة أثناء حركتها. لم يعقب أبي. أذكر أنها لامته كثيرًا عندما عدنا إلى البيت، وأنها قالت إني فعلت ذلك لأني «خايف منه». كانت هذه أول مرة أسمع كلمة «خايف». لم أفهم تمامًا ماذا تعني، وكنت بحاجة إلى شهور عديدة حتى أربط بينها وبين ما أشعر به. ما زاد ارتباكي خلال تلك الشهور أن أبي غيّر طريقته تمامًا، لم يعد يضربني، وقلت كثيرًا انفجارات غضبه، لكن الخوف كان قد استقر.
***
أذكر الشجار المليء بالشتائم والصراخ بين اثنين من مدرِّسيَّ كنت أحبهما كثيرًا، كنت أقدِّر أنهما يستطيعان شرح المسائل الرياضية الصعبة بطريقة سهلة وواضحة ومباشرة، صدمني سماع ألفاظ لم أتوقع سماعها منهما، صدمني أيضًا انفجارهما معًا في وصلة الشتائم والصراخ ثم انتهاء كل هذا كما بدأ، فجأة ومن دون مقدمات. أذكر أني كنت أحب أحد مدرسي اللغة العربية للأسباب نفسها، اعتاد أن يشرح بطريقة ممتازة، كنت أحب صوته وطريقة نطقه المميزة للكلمات، وكنت أعرف ابنه الذي يكبرني بسنة واحدة وطالما لعبنا معًا، أضاف ابنه إلى تلك المحبة الكثير، كنت أرى أن هناك رابطًا إضافيا يربطني بالمدرس. صدمت كثيرًا عندما لطمني فجأة في إحدى الحصص. لم أفهم في البداية لمَ فعل ذلك، ولم أنتبه إلى أنه انهال بالضرب على زميلي الجالس إلى جانبي، ثم أجبره على القيام والخروج خارج الفصل. أدركتُ بعد دقائق أنه فعل كل هذا لأني تكلمت مع زميلي ذاك، لم أعرف ما الذي يجب أن أفعله بعد ذلك، هل يجب أن أعتذر للمدرس؟ لزميلي؟ الأكيد أني صرت أخاف التكلم في الفصل.
بدأت انفجارات غضبي في التوقيت نفسه، أول مَن رأى ذلك أختي وأخي، كنت أراكم أسباب الغضب تجاه كل منهما لينفجر بعد مدة في صورة ضرب أو صراخ أو شجار. رأيت الدهشة والخوف كثيرًا في أعينهما أثناء غضبي، والآن أدرك أنهما لم يفهما لِمَ فعلت ما فعلت، ويبدو أنهما مع الوقت اختارا أن يبتعدا عني مع أننا كنا نعيش في المنزل نفسه. كان انفجار الغضب حدثًا متكررًا كل مدة، تقصر المدة أو تزيد، بلا سبب أو مبرر. لم أتحكم في غضبي قط، لم أحاول أن أهدئ نفسي في أي من تلك المرات. ثم تطور الأمر فانفجر الغضب في وجوه زملاء الدراسة والأصدقاء. في ذلك الوقت عندما كنّا أطفالًا، مرت الانفجارات من دون أن يلاحظها أحد، كنا عنيفين، الشجار والشتائم وما عرفت بعد ذلك أن اسمه «التنمر» تصرفات يومية في المدرسة.
بعد مرور سنوات من التخرج من المدرسة أدركت ببطء مدى سوء انفجارات غضبي. أكبر انفجار واجهه أصدقائي حدث عندما كنا في سيارة أحدهم، لم أعرف قط لِمَ انفجرت صارخًا مطالبًا إياه بإيقاف السيارة لأنزل، كان طلبي مفاجئًا وغريبًا لدرجة أنه لم يتوقف، بعد ثوانٍ فتحت باب السيارة أثناء حركتها وهممت بالنزول، لترتفع صيحات تتهمني بالجنون والعصبية، ثم توقفت السيارة لأنزل بالفعل وأهرول بعيدًا عنها، لحق بي صديقان وحاولا إقناعي بالعودة، سألاني عن سبب ما فعلت، كنت قد تركت الطفولة وصرت مطالبًا -كإنسان بالغ- بتبرير تصرفاتي، لكن الغضب كان هائلًا وإن لم أذكر الآن سببه أو ما أشعله. رفضت الحديث معهما ومضيت في الشارع من دون أي تفكير. عندما عادا إلى السيارة وابتعدت عني هدأت تمامًا، كان الشارع خاليًا من المارة والسيارات وهو شيء نادر في القاهرة. بعد مدة قصير مر تاكسي وأوقفته وركبته، ولسبب ما لاحظ السائق توتري فخاف، أوقف السيارة وطلب مني النزول، وعندما قلت له إن الطريق خالي وإني قد لا أجد سيارة توصلني إلى المنزل انفجر غاضبًا صارخًا فنزلت. مشيت لدقائق في الشارع الخالي، ثم سمعت صوت سيارة مسرعة تأتي من الخلف، بدا لي أن السائق يتعمد أن يقودها قريبًا جدًا من جانب الشارع حيث أمشي، لم يكن هناك رصيف، فقط الأسفلت تليه أرض ترابية، وعندما اقتربت السيارة مني فوجئت بها تنحرف بحدة، أراد السائق أن يصدمني، أو على الأقل أراد أن يخيفني. تركت الشارع وجريت داخل الأرض الترابية هربًا منه، عندما التفت خلفي رأيت أن السيارة قد توقفت إلى جانب الشارع، ونزل منها رجل ومعه كلب، ثم أخذا يجريان ناحيتي. بدأ الكلب في النباح بعصبية وبدا من بعيد وهو يجري أن صاحبه لم يترك له العنان بعد. أسرعت هربًا من الكلب وصاحبه، خفت أن يترك الرجل الكلب فيصل إليَّ. هذه آخر ذكرى، لا أذكر كيف انتهى كل شيء وكيف عدت إلى المنزل، لكني أذكر أني لم أنم تلك الليلة، بقيت راقدًا في السرير حتى الصباح، أعاني من صداع حاد وشعور طاغٍ بالتعاسة، وانقطاع عن الاتصال بهؤلاء دام حتى اليوم.
***
لم أكن قد ربطت قط بين الخوف والغضب والطمأنينة والتعاسة، لكني بمرور الوقت لاحظتُ أن الدورة في معظم الأوقات أصبحت كالآتي: خوف يتراكم منذ سنوات ويظهر فجأة، انفجار غضب لدقائق، طمأنينة لأقل من دقيقة، ثم في النهاية تعاسة تستمر لساعات أو أيام. قد يغيب الاطمئنان من إحدى الدورات، قد ينفجر الغضب في عقلي فحسب من دون أن يظهر في تصرفاتي، قد يختفي الخوف مع أني أعلم أن أثره موجود وهو سبب كل ما يحدث. كان أوضح ما في المشاعر الأربعة مدتها الزمنية، مع كل شعور أعلم أنه سينتهي بعد مدة لكني لا أعلم كيف أو متى سينتهي، باستثناء التعاسة التي كانت أطول وأسوأ شعور، في التعاسة أفكر أنها لن تنتهي أبدًا، سجن مؤبد، عندما تسيطر عليَّ لا أرى شيئًا غيرها، لا أرى نفسي أثناء الخوف أو الغضب أو الطمأنينة، لكن أرى نفسي تحت سيطرتها فحسب.
تكررت كثيرًا انفجارات الغضب، لم أكن أحاول حتى السيطرة عليها، أصابت كل من حولي، أصدقاء وأفراد عائلة وزملاء عمل، وغرباء لا أعرفهم، وبالمثل تعرضت كثيرًا لانفجارات مشابهة من الجميع، من أعرفهم ومن لا أعرفهم، وكان الرد دائمًا على تلك الانفجارات هو الصمت، سواء من ناحيتي أو ناحيتهم. لم يملك أحد الشجاعة للسؤال عن سبب الغضب. فقدت الكثير من الأصدقاء بسبب انفجارات الغضب، وفي وقت ما قررت أن عليَّ أن أنتبه لغضبي، أن أنتبه لأني أفقد الكثيرين بسببه، لأن صداقات كثيرة قديمة تذهب بلا رجعة. كنت قد عرفت تمامًا أن الغضب يأتي بعد تراكم الخوف، خوف قديم من الطفولة يُضاف إليه خوف جديد مع مرور السنوات، ثم يحدث شيء ما؛ كلمة أسمعها أو تصرف أشاهده فينفجر الغضب.