اللوحة: الفنان التشيكي جوزيف كابيك
ماهر باكير دلاش

الحياة، بتنوعاتها وتعقيداتها، تشبه إلى حد كبير الفن التكعيبي الذي ابتكره الفنان بابلو بيكاسو، حيث يتم تفكيك الأشكال والأفكار لإعادة تشكيلها في تركيبة جديدة وأحيانا غير مألوفة. إذا نظرنا إلى الحياة من هذا المنظور، نجد أن اللحظات تتكسر وتتداخل، كل جزء يحمل في طياته حقيقة مختلفة عن الآخر، لكن تظل هذه القطع مترابطة، معبرة عن الكل في مجمله.
كما أن التكعيبية تهدف إلى تجسيد الأبعاد المتعددة للأشياء، فإن الحياة لا تقتصر على بعد واحد، بل تتعدد فيها الأبعاد: الأبعاد الزمنية، العاطفية، العقلية، والروحية. كل منها يساهم في تشكيل الصورة النهائية التي نراها كحقيقة، لكننا غالبا ما نفشل في إدراك كل جوانبها دفعة واحدة.
في الحياة، مثلما في التكعيبية، لا يمكننا النظر إلى أي عنصر بمعزل عن غيره. كل تجربة، مهما كانت بسيطة أو معقدة، هي جزء من مشهد أكبر وأكثر تعقيدًا. قد تظهر لنا الحياة أحيانًا وكأنها مجموعة من الأحداث المبعثرة التي لا معنى لها، ولكن عندما نأخذ خطوة للخلف، نستطيع رؤية الصورة الكاملة، التي تكون غنية بالألوان والتجارب المختلفة التي تخلق توازنًا فنيًا فريدًا.
الحياة التفاعلية بين الأشخاص، مثلما تظهر في الأعمال التكعيبية، تخلق نوعًا من التداخل والتشابك. علاقاتنا مع الآخرين تشبه القطع المتناثرة في لوحة فنية: كل قطعة تشارك في بناء الشكل العام، وتغير زاوية رؤيتنا إلى الحياة. هذه التفاعلات قد تكون صاخبة، صامتة، متقلبة، لكنها دائمًا تساهم في بناء تركيب فريد يعكس تجربتنا الإنسانية.
من منظور إسلامي، يمكن رؤية الحياة كتكعيبية بمعنى آخر: الحياة نفسها، بكل تجلياتها المتعددة، هي اختبار من الله تعالى، وكل لحظة فيها تحمل حكمة بالغة، حتى وإن كانت تفتقر إلى الفهم المباشر. كما أن التكعيبية تعكس الأبعاد المتعددة للأشياء، الإسلام يعلمنا أن الحياة مليئة بالمعاني الخفية التي قد لا تظهر لنا فورًا، لكننا بحاجة إلى النظر إليها من منظور أعمق. في القرآن الكريم، قال الله تعالى: “لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” (الملك: 2)، وهذا يشير إلى أن الأبعاد المختلفة للحياة، بما فيها التحديات والفرح والحزن، هي كلها جزء من التجربة التي تساهم في اختبار إيمان الإنسان وقوة تحمله.
الحياة في الإسلام تُعتبر مسرحًا للابتلاءات، حيث تتعدد الأشكال والظروف التي قد لا نراها دائمًا في تناغم، لكنها تعمل معًا لتحقيق غاية واحدة، هي طاعة الله وعبادته. كما أن التكعيبية تعكس فكرة أن الحياة ليست مجرد تسلسل خطي للأحداث، بل هي مليئة باللحظات المتنوعة التي تحتاج إلى التأمل والوعي. في الإسلام، يُحث المسلم على التفكر والتأمل في كل ما حوله، حتى في أصغر تفاصيل الحياة، فكل شيء هو علامة على قدرة الله وحكمته.
وفي النهاية، تبقى الحياة مثل العمل التكعيبي: مليئة بالزوايا الحادة والمنحنيات، تشكل لوحة غير قابلة للتفسير بسهولة، لكنها مدهشة في تنوعها وإبداعها.