وهَدَمَ المواطن

وهَدَمَ المواطن

اللوحة: الفنان النمساوي لودفيغ دوتيش

في كتاب «مذكرات قليني فهمي باشا» يَروي أنَّه، في عهد الخديوي «إسماعيل» كان يحكم مديرية الجيزة «داود باشا»، وكان الهدف الأكبر بالأقاليم تحصيل الأموال الأميرية وسائر الضرائب، وكان له سُمعة وهَيبة، فأسرع الجميع لدفع الضرائب عدا أحد كبار علماء الأزهر الذي يملك أرضا بتلك المديرية ويسكن الجيزة، وكان متراكما عليه ضرائب كثيرة يرفض دفعها، فأرسل «داود باشا» إليه رسولا يستدعيه، فرفض وقال: «لا شغل لي عنده»، ولما رجع الرسول خائبا، أمر «داود» بجلده جلدا مؤلما، ثم قال له:«اذهب وأستحضره حالا بأي كيفية»، فذهب الرسول ومعه كرباج عظيم، ولما رفض العالِم الحضور ضربه بالكرباج فخضع وذهب معه بملابسه الفاخرة، ودخل على «داود»، وهمَّ بالجلوس بجانبه، فصرخ «داود» مستدعيا اثنان من القواصين وقال لهما: «خذا هذا الكلب – مشيرا إلى العالِم – واطرحوه أرضا»، وجلدوه بالكرابيج على أقدامه وهو يصرخ ويستغيث، ولم يتوقف الضرب حتى دفع كل المال المتأخر عليه من الضرائب، وحملوه على الأيدي وأوصلوه لفراشه في بيته.

ذاع الخبر حتى وصل لمسامع علماء الأزهر، وشَكَّلوا منهم وفدا برئاسة شيخ الجامع الأزهر، وقصدوا سراي عابدين وقابلوا الخديوي «إسماعيل» وقالوا له:

«يا أفندينا في عصرك، عصر النور والعلم، الذي رَفَعْتَ فيه راية العلم، وعَظَّمْت قدر القائمين به، ورفعت شأن الأزهر إلى عنان السماء، يَضْربون فيه العلماء بالعدة والكرباج كسائر الفلاحين؟».

فطلب الخديوي إحضار «داوود باشا»، فحضر وهو ثابت الجنان ولم يكن عنده أدنى اضطراب بخلاف ما كان يُنتظر، وسأله «أفندينا»: «هل أنت ضربت العالم فلان؟، فقال: «نعم»، قال: «وكيف تضرب عالما؟»، فقال: «أفندينا نائب الخليفة في الحكومة المصرية، وانا نائب الخليفة في مديريتي، وهذا العالِم ثبت لي أنه شَتَم النبي، فلم يسعني وانا خليفة الخليفة في مديريتي إلا تأديبه، فأمرت بجلده جلدا عظيما».

فما كان من العلماء إلا أن قالوا: «من شتم النبي لا يُكتفى تأديبه بالجلد، بل لا بد من رجمه»، فقال داود باشا: «ولكني جلدته جلدا مؤلما وأظن بعد هذا العذاب الذي ذاقه لا يصح رجمه»، حينئذ قال أفندينا: «مادام ضربه ضربا مبرحا فليكتفي بذلك»، ثم انصرفوا معلنين شكرهم وارتياحهم لما فعله سعادة المدير، وشكروا ولي الأمر لاهتمامه بمطلبهم.

وبعد انصرافهم سأله الخديوي: «ما هي الحقيقة؟»، فقال: «يا أفندينا، هذا الرجل بتوقفه عن دفع مال الحكومة يعطل عليَّ تحصيل أموال المديرية، فبجلده حصلت على جميع المطلوب منه ومن أهالي المديرية، فاستحسن الخديوي فعله وأثنى عليه.

***

خرج وفد العلماء ومعهم شيخ الأزهر وتفرقوا دون أن يجرؤ أحد منهم على الكلام، ورجع أحد العلماء إلى بيته وهو واجم ومضطرب الفكر والمزاج، وانفرد في غرفته يكلم نفسه، فما سيدور في نفسه لا يمكن أن يسمعه غيره.. قال:

«يَضربون فيه العلماء بالعدة والكرباج كسائر الفلاحين؟ – أهذه كلمة تصدر منَّا نحن علماء الدين.. وهل ضرب الفلاحين حلال وضرب العلماء حرام؟.. ألسنا فلاحين أبناء فلاحين!، ها هو الميثاق الغليظ والزواج الحرام بين سلطة الحكم وعلماء الدين يُثمر علقما ومرارة علينا نحن العلماء، فرحنا بأنْ عزلنا أنفسنا في طبقة متطفلة على رجال الحكم والمال، وملأنا المنابر صخبا بتوبيخ الفلاحين على عدم إتقان الوضوء أو أداء السنن، وما يستحق التوبيخ سوانا، فما جدوى الموعظة إن لم يكن فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل سبق أن تجَرَّأ عالم أن يقول للناس “أن المسلم عزيز ولا يقبل الإهانة سواء بالجلد أو الظلم”، للأسف لم تخرج من أفواهنا كلمة الحق، سكتنا على الظلم وشغلنا الناس بصغائر الأمور وأوثقنا إرادتهم بكلمات الطاعة والصبر على الظلم والرضا به، واليوم كان أكبر امتحان لنا، فلم يجرؤ واحد منا على أن يُكَذب «داود»، لأننا نعلم أنهم آلهة بشرية في قلوبنا، فاحتال «داود» علينا بما نحتال به على الناس، وضحك علينا لأنه يعلم ضعفنا وحرصنا على الدنيا، وكما يقول المثل: «لقد أذل الحرص أعناق الرجال».

***

في كتاب المؤرخ «جمال بدوي» بعنوان «مصر من نافذة التاريخ».. قال: 

كان «الدفتردار»، زوج ابنة «محمد علي»، من أهم أذرعه لبسط سيطرته على الحكم، طاف يوما على بعض القرى، تقدم منه فلاح بائس عارضا شكواه، فقال: «لقد تأخرت عن سداد الضريبة المستحقة عليَّ وقدرها ستون قرشا، ولكن ناظر الأرض أبى إلا الدفع، فاستولى على بقرتي الوحيدة، وأمر جزار القرية بذبحها ثم قسمها ستين جزءا وأمر بتوزيعها على الفلاحين بواقع قرش واحد للجزء، وأعطى الجزار رأس البقرة لقاء عمله، وبعد أن جمع المبلغ، مضى وتركني دون أن أتذوق حتى ولو قطعة واحدة من لحم البقرة التي كنت أعتمد عليها في زراعتي وكانت تساوي ضعف هذا المبلغ الذي جمعه».

مضى «الدفتردار» إلى القرية وجمع أهلها في الجُرن، والتف الفلاحون في شبه حلقة، ووسطها الناظر والجزار، وأمر بتكبيل الناظر بالحبال وإلقائه وسط الحلقة، وقال للجزار: «كيف سمح لك ضميرك بذبح بقرة هذا الفلاح المسكين وهي كل ما يملك من حطام الدنيا؟»، فارتعد الجزار وقال: «إني يا مولاي، عبد المأمور، ولم أفعل سوى ما أمرني به الناظر»، فقال له: «لو أمرتك بأن تذبح الناظر مثلما ذبحت البقرة.. هل تفعل؟»، فقال الجزار: «لقد قلت يا مولاي إني عبد المأمور أطيع الأوامر التي تصدر من سادتي»، فقال «الدفتردار»: «إذن فإني آمرك أن تذبح هذا الوغد»، وأشار إلى الناظر، فخف الجزار مسرعا وأخرج السكين من جيبه، وانقض على رقبة الناظر، فحزَّها حتى فصل رأسه عن جسده، وساد الوجوم أهل القرية، وجمدت الدماء في عروقهم، وظلوا واقفين مذهولين أمام هذا المشهد الرهيب، فقال «الدفتردار» للجزار: «والآن آمرك أن تقطع جثته ستين إربا.. ما عدا الرأس».. ومضى الجزار بنشاط في تنفيذ الأمر، ولما فرغ التفت «الدفتردار» نحو أهالي القرية صارخا: «على كل منكم أن يشتري قطعة ويدفع قرشين»، وصدع الأهالي بالأمر، أخذ كل منهم قطعة من لحم الناظر، ووضع قرشين، فلما تجمع مبلغ مائة وعشرين قرشا، تناولها «الدفترداد»، ودفع بها إلى الفلاح المنكوب ليشتري لنفسه بقرة جديدة، ثم التفت إلى الجزار وقال: «كما أنك أخذت رأس البقرة جزاء لك على تعبك، خذ بالمثل رأس الناظر جزاء على تعبك»، وانطلقت منه ضحكات فظيعة كأنها زلزال، ثم نهض وغادر القرية، ومن خلفه جنوده، بينما أهل القرية ذاهلون من هذا الكابوس.

***

حين عرض ناظر العزبة على الأهالي أنْ يشتروا القطعة بثمن بخس، قرش صاغ، لم يُجْبَر أحدٌ على أن يشتري، كان قرار شراء القطعة بإرادة الناس، قرروا المشاركة في ظلم جارهم، وبدلا من أن يرفضوا الشراء أو أن يدفعوا لجارهم بقية الثمن الحقيقي لقطعة اللحم، أو يثوروا في وجه الناظر، تسابقوا للشراء ليفوزوا بالتخفيض، وربما هدَّأ من ضميرهم مبرر أنهم لو رفضوا الشراء فسوف يشتريها غيرهم، ولكن كان العقاب الأكبر في بقية القصة، حين أجبروا على إعادة المشهد بوجهه الحقيقي وكأنه من يوم القيامة، لقد اضطروا إلى مشاهدة رجل يَذبح رجلا ويَسلخه ويقطعه ويبيعه ثم يشتروا لحمه بضعف الثمن الأول، وعاد كل واحد إلى بيته بمشهد لن ينساه أبدا، وكما ضحك «داود باشا» على العلماء في القصة الأولى بسبب ضعفهم، ضحك «الدفتردار» على الفلاحين في القصة الثانية لنفس السبب، «الضعف، الحرص، قبول الإهانة، ترك الفرد منهم ليظلم دون أن ينطقوا بكلمة أو يطلقوا صرخة».

***

كما قال الإمام «محمد عبده»: «لقد أقام (محمد علي) الدولة وهدم المواطن»

لقد كانت مقاومة المصريين للحملة الفرنسية قوية جدا طوال زمن الاحتلال، وقاد المقاومة علماء الأزهر وطلبة الأزهر، ولكن مرت عشرات السنين من حكم الأسرة العلوية، وأصبح تحصيل الضرائب بالكرباج، يُجلد الفلاح أمام زوجته وأبناءه وبناته، ويقهر على السخرة التي تأخذهم للشغل كعبيد إلى حيث يقرر الباشا، حتى أن عدد من مات بسبب السخرة في بناء قناة السويس كان رقما ضخما، ولو أضفنا ابتلاء الفقر الشديد في حياة الفلاحين، حيث كانت المعاناة شديدة في شراء ما يسد الجوع ويستر البدن، نفهم كيف غيرت الديكتاتورية طبيعة الشعب وأفسدت تماسكه ونالت من أخلاقه ومروءته.

ويظل يتردد السؤال الذي يتخلل كل مقال يُكتب: 

  • ماذا حدث للمصريين؟ 
  • هل هناك أمل في الشفاء من هذا الإرث النكد الذي تشربت به نفوس المصريين خلال عصر أسرة «محمد علي» ومازال فيهم بقية من آثاره التي تمنع التعاون بين المصريين في مقاومة الظلم، حتى أصبحوا دوائر بلا أسنان؟
  • ألا يهب علماء الاجتماع للحفر في جذور النفس المصرية لمعرفة أصل الداء ووصف الدواء.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.