اللوحة: الفنانة الإنجليزية إليزابيث وانج
في خطبة الجمعة، حكى الخطيب قصة «رجل توفي بأن انزلق فسقطت رأسه داخل قاعدة دورة المياه، وذكر أنه كان في حياته يتعامل بالربا، وأخذ يُحَذِّر من سوء الخاتمة».
تذكرت صديقي حين قال لي يوما أنَّه (حزين على والدته لأنها توفيت ووجهها مُتجهم وغاضب، وأنَّه يخشى أن يكون سوء ختام، رغم أنه لا يَعرف عنها سوى الصلاح)، وسألني: «هل هذا يعني أنها ارتكبت خطايا لا نعرفها فساء ختامها حين ماتت؟»
فطمأنته إلى أنَّ أمه عانت زمنا طويلا من الألم والمرض وشحبت وهزلت، وما رآه ربما أثر الألم في وجهها فتجمدت ملامحها على هذا الشكل الذي أفزعه، وذكرت له أنَّ هناك من نعرف عنهم سوء العمل والسيرة ومع ذلك يموتون في فراشهم في سلام بوجه ملائكي، وهذا الاعتقاد لا يمكن اثباته، فلو قام أحد بتصوير شخصيات يُشتهر عنها الصلاح وأخرى يشتهر عنها الضلال والشر، فلن يستطيع اثبات فكرة حسن وسوء الختام، وسيرتبك نتيجة التناقض الكبير بين ما يعرف عنهم وما يرى في الصور، ثم أنهيت كلامي بالقول: «الله يستر عباده، فهل تتصور أن يستر الإنسان طوال حياته ثم يفضحه في مماته»
***
إنَّ أسلوب الحكايات الذي نتلقاه في الخطب يؤثر فينا ويزيد في تخلفنا الذي لا قاع له، فنحن شعب ساذج ومتواضع الوعي والثقافة ولا ينقصنا مزيد من قصص ألف ليلة وليلة.
ولهذا أفَضِّل ولو مؤقتا أنْ يَصدر قرار بتوحيد الخطبة، بأن يكتبها عالم دين فقيه وأديب وموهوب، لنتخيل خطبة كتبها عالم الدين، بدعم من فريق مكون من علماء «الاجتماع والفلسفة والتاريخ والنفس والطبيعة وبقية العلوم»، تهدف هذه الخطبة إلى تعميق الإيمان وغرس القيم وتنوير العقل، يقرأها كل خطيب أمام الناس في المساجد، ثم يصلي بهم، وبهذا نفوز بخطبة مفيدة للناس، ويسمعها الملايين، ونتأكد أنَّهم لم يسمعوا ما يغرس فيهم التخلف، وتكون خطبة الجمعة درس الأسبوع الذي ينتظره الناس.
***
من مات ساجدا في المسجد لا يَضمن ما نعتقده من حسن الختام، فربما ارتكب من الأعمال الظالمة ما يثقل ميزانه، وخاصة أننا في هذا الزمان، نرى التدين بالانضمام للفرق الصوفية أصبح خيار كثير ممن نعرف فسادهم المالي والسياسي، فساحة التصوف تسع الجميع من الصالحين والطالحين، وأغلب الظلمة والمسرفين يرددون البيت الشهير الذي لا أوافق عليه.. «أحب الصالحين ولست منهم عسى أن أنال بهم شفاعة»، وكأنه يقول أنا فاسد وظالم وربما قاتل، ولكني أتشفع لك يا إلهي بحب الصالحين، فاحشرني معهم!.. فهل هذا معقول!.
حسن الختام وسوء الختام اختراع يزيد في سذاجتنا ولا يعمق الإيمان، بل يجعله سائلا، ولهذا علينا أن نكف عن التطفل على مصير الناس الأخروي، ونترك الحساب ليوم الحساب، ونقتصد في غرس دعوات الموت في دعائنا ونكثر من الدعاء بالحياة الصالحة والمُصْلِحة.
علينا أن نشغل أحلامنا ب «حسن العمل وحسن النية وحسن المعاملة وكل ما هو يصب في جودة الحياة وسلام العلاقات وسلامة الإنجاز»
***
نحن نستهين بأثر هذه المعتقدات فينا، رغم أنَّها تلقن شبابنا أحلاما خاطئة وضالة، ولو فتشنا في غالب الدعاء في الصلاة لاكتشفنا أنَّه يصب في كفة الموت أكثر من الحياة، «دعاء حسن الختام وتهوين سكرات الموت والنجاة من عذاب القبر والستر في الدنيا والآخرة وبقية الدعوات التي تستعرض سلسلة رحلة الآخرة»، أما دعاء الدنيا فلا يتعدى «رزق ونجاح وزواج وستر وبقية مفردات من حظ النفس».
***
هناك ظاهرة مدهشة في المسلمين وغير مفهومة، فالاستجابة للدعوات التي تحت شعار الجهاد والموت في سبيل الله تجد دائما من يستجيب لها من الشباب بإخلاص، بينما دعوات الحياة في سبيل الله لا سوق لها ولا يفهمها المسلمون، حتى أنَّ مصطلح «آمنوا وعملوا الصالحات»، لم يأخذ حقه من الشرح والفهم والتطبيق، فالصالحات في أغلب تفسيراتها تصب في صدقات وفضائل فردية وترَقِّي سلوكي، لا يوجد في تفسير الصالحات دعوة لمقاومة المجتمع للظلم والفساد، أو دعوة لتحصيل علم مادي يفيد البشر ويزيد في جودة الحياة، وهذا تناقض كبير، كيف نفهم سهولة إقبال شباب على الموت في سبيل الله بينما لا نجد شباباً يتعاونون في مقاومة رشوة أو ظلم أو قهر؟، رغم أن عاقبة وغرامة مواجهة الفساد في المجتمع تكون اقل بكثير من الموت، وخاصة حين تكون المواجهة جماعية، ويتصدرها بعض المتقين الغيورين على صلاح المجتمع. من الملاحظ أنَّ فهمنا للدين يرتكز ويتكثف في الفرد والأسرة، ولا يشتغل خارج البيت في المجتمع إلا بسهم قصير وقليل.
لقد تدربنا وتبرمجنا دينيا ومجتمعيا على أن تحمر وجوهنا وتندفع الدماء في عروقنا حين نشهد ما نعتقد أنه يمس الدين أوما نسميه العِرض والشرف، فمن يَذكر نساءنا بسوء أو يرتدي خاتم ذهبي أو يتلفظ بكلمات تمس الاعتقاد، سوف يجد من يندفع للتصدي له دون حساب للعواقب، ولكننا في معاملتنا اليومية نرى من يحابي أقرباءه أو معارفه أو يتلقى رشوة تمكنه من تخطي دوره، ومع ذلك لا يتكلم أحد، ولا نشعر بالإهانة، لأنها أصبحت من طبائع الحياة عندنا، نعتبرها خارج النص الديني، لا يوجد مسلم يعتقد أنِّ عليه التصدي للرشوة أو للفساد، ولهذا نحن جبناء وسلبيون بامتياز أمام فساد المجتمع، والفرد بلا ثمن ولا كرامة، وسر هذا الجبن يرجع إلى أننا تبرمجنا على قيم مرتبكة، تتضخم قيم المظاهر والقشريات وتتضاءل قيم الجواهر والأصول، فتسفك الدماء هدرا في غير موضعها.
ذكرت من قبل في كتابي «أرواحنا في السماء» قصة شاب بالصعيد عقد على زوجته ولم يدخل بها ثم حدث انجراف إلى لقاء جسدي، وحملت الزوجة، وبدلا من التعجيل بالزفاف، قامت البنت بعملية إجهاض برعاية أم الزوج والزوجة، وقُتل الجنين المكتمل، وارتكبت جريمة قتل من أجل ما يسميه الناس الستر، في هذا المثال كان لديهم خياران:
الأول: التعجيل بالزفاف، والذي قد يثير تساؤل الناس، ولكن لماذا نراعي تطفل الناس، فطالما لم يحدث خرق للشرع فلا نهتم.
الثاني: قتل الجنين المكتمل، وهي من أكبر الكبائر.
وكان الخيار هو الثاني!، ولهذا فقيمنا مرتبكة ومعكوسة.
هناك مجتمعات حين تُقسم بشيء مقدس، تُقسم «بشرفها – كرامتها – نزاهتها – الأب والأم»، وهؤلاء واقعيون، يُقسمون بقيم مقدسة منظورة، تساعدهم على الثبات أمام إغراءات الشرور، فهناك من يرى شرفه في «التزامه في حياته المهنية، الصدق، الأمانة، حفظ الكرامة، صيانة العهد، الوفاء.. إلخ».
هذه القيم هي جوهر قيم الإسلام، ولكنها لم تصبح نصوصا وأدوات للقسم عندنا، فقد جاء من يفتي بأن لا نقسم إلا بالله وإلا أصبحنا مشركين، وأرى أن هذه الفتوى نَزَعت من لساننا قيمنا المادية والمعنوية والتي تساعدنا على الثبات في حفظ النفس من الانحراف والضلال، فالواقع يشي بأنَّ أغلبنا لا يقسم إلا بالله ومع ذلك تمر الرشوة والظلم والفساد بين أيدينا، وتنتهك كرامتنا ونزاهتنا وضميرنا أمام أعين الجميع، فهل نفعنا أننا لا نحلف إلا بالله، فهربنا من شِرك متوهم ووقعنا في ذنوب بلا عدد.
أعتقد أن من يحلف برأس أبيه أو كرامته ثم يلتزم بهما خير ممن يحلف بالله ويحيا كإنسان مَخْصي في الدنيا بلا كرامة ولا غيرة إلا على قِشريات.
المبالغة في المِثال رفعنا عن الأرض فلا بلغنا السماء ولا لمسنا الأرض، ديننا طوباوي وقيمنا أشبه بقيم «دون كيشوت» النظرية والمنعزلة عن الواقع، أصبحنا أبناء الموت والآخرة بلا عمل يستحق، وفشلنا في رحلة الدنيا وبعدنا عن المعنى الحقيقي للصلاح والإصلاح والصالحات.
***
حسن الختام الذي نبحث عنه يشبه اليانصيب، مقامرة، بينما الختام هو حصيلة الرحلة كاملة، الختام حين نتلقى كتابنا باليمين، ولا نتلقى كتابنا باليمين إلا حين نكون مُصلحين، صلاح الدنيا والعمل الصالح هو عملة الإنسان المسلم، وليت فقهاءنا يبدؤون في تعريف العمل الصالح تعريفا قرآنيا يحقق الخلافة في الأرض، تفسيرا بعيدا عن المظهر السطحي والأفعال الطقوسية، بل يحقق الخلافة التي قام بها غيرنا من الأديان الأخرى، فسبقونا وتسودوا علينا ولم نبدأ بعد في اللحاق بهم.
***
من الشعارات التي تثير التأمل: «الموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، وأيضا الحديث: «مَن ماتَ ولم يغزُ ولم يحدِّث نَفسَهُ بالغَزوِ ماتَ علَى شُعبةٍ من نفاقٍ»
هذه الشعارات صالحة زمن الحرب، ومهمة للجُند، ولكن في وقت السلم والحياة المدنية، يجب أن يندمج الإنسان فيما يزيد في «الصلاح والإصلاح – السلم والسلام، التعارف والتقارب»، وكل هذا لا ينمو تحت شعارات الموت والغزو.
