طعام نبي

طعام نبي

اللوحة: الفنان الجزائري صالح المقبض

في المرحلة الجامعية، سمعت هذه القصة في خطبة جمعة: 

«مَرّ أحد الصحابة على الرسولﷺ وهو يتناول طعامَه مع أصحابه، فدعاه الرسول للطعام، فرفض معتذرا بِشُغل أو ربما تغلب عليه الحياء، ومر الزمان وتوفي النبيﷺ، وندم الصحابي لأنَّه بِعَفَوِيَّته الساذجة، فاتته فرصة تناول الطعام مع نبي، وهذه فرصة يحلم بها كل المؤمنين، فربما يُغفر له بها أو يَحرم جسده على النار أو ينال صحبته في الجنة.

عندما استمعت لتلك القصة في شبابي، صدّقتها وعظّمتها، ثم خرجت منها بفكرة حلوة وصوفية وخاطئة: «أنَّ الناس قد يكون من حظهم نيل بركة ومغفرة بسبب دعوات تنالهم من صالحين ومُقَرّبين، أو بمشاركتهم الطعام أو الصحبة»

وكما يشتهر القول: 

«أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم 

لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَه».

ولا أدري كيف بالمنطق نمرر فكرة أنَّ محبة الصالحين مع الإصرار على عدم الصلاح ترمم الفجوة بين الطرفين، هل من المعقول أنَّ اللص الذي لم يتوقف عن السرقة، يُعفى عنه ويَلحق بالشرفاء لأنه يحبهم؟، أليست هذه الواسطة التي نمقتها في الدنيا، ويحرِّمها الدين!.

نحن نفتخر أنَّ المسلمين محظوظون لأنهم ولدوا مسلمين، ووفر الله تعالى عليهم مشقة البحث عن الدين الحق، والمتبركون بالصالحين أيضا محظوظون لأنهم وقعوا على يانصيب المغفرة بفرصة التقائهم بالصالحين، هذه عقلية الحصول على درجات عالية دون اجتهاد مباشر، والتي تغلبت على المسلمين مبكرا.. ولا تزال!

***

في الحديث:

أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.

لا شفاعة بنسب ولا محبة ولا تفريعات جانبية يدخل منها اللصوص إلى ساحة الشرفاء.

***

سمع «الحجاج» أنَّ أمير المؤمنين «عبد الملك ابن مروان» عطس في مجلسه بدمشق، فحمد الله، فشَمَّته الحاضرون (يرحمكم الله).. فرد عليهم بالدعاء (يهديكم ويصلح بالكم).. فما كان من الحجاج إلا أن قال:

«يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما»

تمنى لو كان في الحضور ويدعو له عبد الملك فينال البركة!

***

القول المشهور «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»، لا يعتبر حديثا نبويا، ولكن المجتمع والأفراد يؤمن ويمارس هذا المفهوم.

هل العِرق دساس؟

هناك مفهومان لكلمة دساس؛ الأول: البيئة التي يتربى فيها الإنسان يَتَشَرَّبها وتُشَكِّل شخصيته وعاطفته ونفسيته ومفردات لغته، وخير شرح مباشر لهذا المفهوم هو الفيلم المصري “بدل فاقد”، فالولد الذي تبناه ضابط شرطة جعل منه ضابط شرطة مُرَفَّه ومُثقف ويطارد المجرمين، ووالذي تبنته راقصة جعلت منه شابا متشَرِّبا ببيئَتِها الماجنة والشهوانية «ومع ذلك فلكل قاعدة ما يَنْقضها أو ما يشذّ عنها».

الثاني: أنَّ هناك وراثة جينية؛ فيتسرب إلى الإنسان بالولادة طبع (بخاصة خبيث) يسري في دمه، يولد الإنسان ومعه ذنب تاريخي لم يقترفه، يحمل مؤهلات وميول الغدر والفحش والخطيئة والخبث بمجرد الولادة، لأنه ورث جينات تؤثر في فعله.

وهذا مستحيل قرآنيا لأنَّ هذا يعفي الإنسان من المسؤولية عن الفعل، فيقول زنيت أو غدرت أو قتلت لأن عروقي مدسوسة بدوافع قهرية ورثتها من آبائي.

***

هناك مفهوم ثالث انجرف وراءه السنة والشيعة، فطالما تم السماح بنظرية أنَّ العرق دساس، كان بديهيا أن تقسم طبقات بحسب العروق، وأعلى تلك النظريات هي نظرية الأشراف وآل البيت وعِصمتهم، والعِرق هنا يفهم بطريقة عكسية، فيحمل المرء نبلا وشرفا وكرامة بمجرد الميلاد من نسل شريف، والدنيا حظوظ عند من لا يفكر ولا يتدبر.

الخلاصة أنَّ الناس سواسية، واختبار الدنيا يقتضي هذه المساواة، فلا يولد مع المرء شهادة شرف أو إدانة، فلا ينفعه طعام نبي ولا نسب نبي.

***

قام الباحث اليمني «عصام القيسي» بتقديم تفسير مدهش لتكرار الآية «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ» (الطبري – 47)، مع أنَّه يَكثر ذمهم لأسباب كثيرة منها

«طلبهم صنم يعبدوه – توبيخهم واتهامهم المستمر لموسى – رفضهم دخول القدس – قصتهم مع البقرة – قتلهم الأنبياء – عبادتهم العجل.. إلخ»

ويتساءل؛ «لماذا فضل الله بني إسرائيل بالرسالة حتى أن معظم الأنبياء والرسل منهم» 

يقول: أكبر مأخذ على بني إسرائيل، جرأتهم على الأنبياء وضعف الهيبة تجاههم، وهذا يعني أنهم بعيدون عن الافتتان بالرسل فلا يرفعوهم لدرجة الآلهة كما حدث مع بعض الأنبياء.

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» (التوبة – 30).

فتأليه الأنبياء ينزع التوحيد من الدين، فيتحول إلى دين بشري، ولهذا كان التسامح مع غلظة وصعوبة طباع بني إسرائيل مقابل حصانتهم في أغلب الأوقات ضد تقديس الرسل.

وبهذا فلا يصدر منهم مصطلح طعام نبي ولا أحب الصالحين الذي يَخدع به بعض المسلمين أنفسهم.

***

يحكَى أن رجلا عثرت قدمه في قطعة نقود ذهبية، ففرح بها، ثم ظل طوال حياته يمشي ورأسه منحني وعينه على الأرض يبحث عن قطع الذهب، فأهدر حياته بترك العمل، وهذا الرجل يطارد فكرة طعام نبي دون بذل جهد.

***

في القرآن الكريم: «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (الأنعام – 160)

هذه الآية هدية كبرى للمسلمين، وفيها إقرار بأن الإنسان به ميل وضعف قد يؤدي لانفراط ذنوب، ونسبة واحد إلى عشرة شديدة الكرم، وتريح القلب، وتشجع الإنسان على الصالحات، وتقاوم ميل الإنسان لليأس من نفسه حين يذنب أو يخطئ، فالتعويض متيسر بكرم، ومع ذلك لا ينتبه الناس لهذه الآية، ربما يرجع السبب إلى مبالغة الواعظين في تشديد عقوبة الذنب كنوع من الترهيب، ولكن الآية واضحة، ولو اشتغل عليها علماء الدين والوعظ لكانت فتحا للمذنب والطائع، فمن هزمه الذنب بسبب عادة أو غلبة شهوة فله فسحة من الوقت والخيارات لمغالبة هذا الضعف بممارسة الحسنات في مجالات بلا عدد، مجالات متيسرة للإنسان ولا تقاومها شهوة ولا طبع.

لو فقهنا هذه الآية لما أسرعنا للبحث عن طعام نبي أو التوسل بأحد الصالحين، فالانشغال بعمل الصالحات يغني عن التمسح بمن هو عبد مثلي ويخضع لنفس الامتحان في الدنيا.

ولو فقهنا هذه الآية لتنوع الناس في عمل الصالحات ومطاردة الحسنات، فكلنا خطاؤون وكلنا محسنون، هناك من يحسن بمنح المال وآخر بمساعدة المحتاج أو تعليم الجاهل وإرشاد الضال، فأبواب الحسنات بلا عدد، وهي خير شافع للإنسان.

***

في فيلم «الراقصة والسياسي» تقدمت الراقصة بطلب بناء منشأة خَيرية للأطفال، وتم رفض الطلب، لأنها راقصة، والمال لا بد أن يكون حلال، فما كان من الراقصة إلا أن ذكَّرت الموظف برجال أعمال يقوموا بأفعال شيطانية يحتالوا بها على الناس، ويسهل قبول تبرع المال منهم، ثم عرضت عليه أن يكون المتبرع مساعدها وخاصة أنَّه ليس راقصة وله فيش وتشبيه «شهادة خلو من سابق مخالفة قانونية أو قضائية» سليم، فرد بأنه قد يقبل طلبه في هذه الحالة، ثم قالت له: «هل تعرف أنه مدمن مخدرات وأشياء أخرى (شاذ).

***

في هذا الحوار فكرة مدهشة، وهي أننا لا نستطيع أن نبدع جهاز كشف المال الحرام من الحلال، وقد أعطى الحوار جدالا حسم الفكرة بأن القانون منع مال الراقصة بالجسد ولم يستطع الوصول لمنع الراقصين بالسياسة والتجارة الفاسدة والنصب وبقية أنواع المال الحرام.

ولأننا لا نستطيع اختراع هذا القانون وهذا الجهاز بعد، فعلينا أن نكف عن تقصد مال الراقصات بالجسد، فنحن نقبل تبرع مال غير المسلم مهما كان مصدر رزقه، ونقبل تبرع الدول الأجنبية وقروضهم، ومع ذلك نتشطر على الراقصات، ولا أقصد الراقصات بالتحديد ولكني أقصد مطاردة من نظن أن مالهم مختلط.

***

من الذكريات المدهشة والمتكررة في طفولتي أن يقول لي جدي وأمي وأقرباء آخرون: لقد وضعت شهادة الاستثمار أو مال في البنك ولكني وقَّعت على عدم قبض الفوائد.

هذه هي الفتاوي القديمة، ولا يستفيد منها سوى البنك، فيربح ويتضخم، وحين أعترض وأتساءل عن البديل البديهي وهو أن نقبض الفائدة ونعطيها للفقراء.. يرد الشيخ وآخرون: «وهل نطعمهم مال حرام»، 

والنتيجة أن يحرم الفقير من مال ويكثر مال أصحاب البنوك.

***

فكرة أن نمنع الإنسان مهما كان مصدر ماله من التبرع هي فكرة مدهشة، فكرة تجعلنا نتدخل في أبواب الخير المنفلت من الناس مهما كانت ضمائرهم وأعمالهم، فليتبرع من يريد بأي مال ولا نشغل أنفسنا بمصدر المال طالما للمحتاجين، فالتبرع تنفيس عن ضمير ملتهب، فلماذا نمنعه.

فقهيا يتحول المال الحرام إلى مال حلال بمجرد الميراث.. فلو كان كل المال الموروث من ربا أو فساد أو عَرَق راقصة كما يقولون.. يتحول إلى حلال فقهيا.. فيكون حلال على الوارث.. ألا يستثنى معه أيضا تبرع المال من راقصات وراقصين المجتمع من كل صنف ولون.. ونعتبر أن المجال الخيري يطهر المال… وهذا على أقل تقدير أكثر منطقية غسل الذنوب بالتطلع لطعام نبي أو محبة الصالحين.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.