قصيدة على أعتاب العامريات

قصيدة على أعتاب العامريات

اللوحة: الفنان الصيني زهي يونغ جينغ

محمد محضار

منذ زمن بعيد ظل سجين أسئلة متناسلة، لا يكاد يجد جوابا لواحد منها حتى تحاصره أُخر أَكْثر غُموضاً فيجد نفسه فريسة لعملية تكرار مُمِلَّة، في البَدء كانت الأسئلة وجودية محضة، لكن مع تقدُّمِه في العمر حضر الهاجس الاجتماعي بكل تجلياته وترتّب عن ذلك تخبط نفسي قوي، زاده حجم السؤال المعجون والمموه بتلاوين متضاربة تجمع بين الغموض والمجهول، وتدمج بين المعقول والسوريالي، وبالتالي تنامت درجة ضياعه في بحر بلا قرار، وصارت سدرة المنتهى بالنسبة له الخروج من وجع التوجسات وقهر الهلوسات.

عندما سألته زوجته عن سر شروده وهذيانه المتكرر، لم يجد ما يردّ به عليها واكتفى بابتسامة شاحبة وغير مقنعة، قالت له بإلحاح: “تمتع بما تبقى لك من عُمْرٍ، ولا تشغل بالك بالهرطقات، فلست بقادر على تغيير المسار والتأثير على ما كان وما هو كائن وسيكون”.

لم يحفل بكلامها رغم ايمانه برجاحته، وعقلانيته، لأن هناك شيئا داخله يمنعه من القبول بالأمر الواقع، والاستسلام لسطوة الغموض. ثم أسند ظهره للخلف ونظر إليها بعيون ذابلة، وعادت به ذاكرته سنوات إلى الخلف، شاءت الأقدار أن يتعرف عليها صدفة في طريقهما من الرباط إلى مدينتهما، ومن يومها تعددت لقاءاتهما، ولم يعد أحدهما يطيق البعد عن الأخر، كان يهرول لانتظارها كل مساء قرب مقر عملها، فتحتضنهما شوارع المدينة وأزقتهما، وهما في حالة انتشاء متقدمة، حتى إذا أحسا بالتعب، هرعا إلى مقهى الحديقة الكائن وسط الغابة المخزنية، وطلبا مشروبا ساخنا، أو باردا حسب الأجواء، ثم يندمجا في الحديث، تحدثه عن نفسها، عن أحلامها وطموحاتها، ويحدثها هو عن ولعه بها وارتياحه لوجودها معه، وعندما يأتي المساء يفترقا، ليتكرر اللقاء في اليوم الموالي، وهكذا دواليك حتى قررا دخول القفص الذهبي، فتزوجا، وتدرّجا في دروب الحياة صعودا وهبوطا، ورُزقا بالذرية الصالحة، ثم ركبا قطار الحياة المتجه إلى حيث لا يعلمان.

الأن توقف الزمن، وصارت الحياة نسخا كربونية، وكل تلك الوجوه التي كان لها أثر في حياته رحلت في هدوء وصمت، ولم يعد له منها إلا تلك الصور الذهنية الملتبسة، وتلك القسمات المتناثرة في تعاريج الذاكرة المنهكة، منذ شهرين التقى بسيدة في إحدى الحفلات العمومية، بالكاد تذكرها وهي تبادله التحية والترحيب وتنطق اسمه بحميمية، عرف فيما بعد أنها صديقة مقربة لحبيبته السابقة نُعمة التي هاجرت منذ ما يربو على الأربعة عقود إلى كندا، قالت له: “العالم صغير، من كان يظن أننا سنلتقي مرة أخرى بعد كل هذه السنوات”، سألها عن أحوال نعمة، أخبرته أنها لم تتزوج رغم دخولها في علاقات انتهت بالفشل، وهي تعيش حياة عادية بعد تجازوها سنّ الستين.

النبش في الماضي، يمنحنا فرصة لإعادة ترتيب الأوراق وقراءة الحاضر بنكهة الأمس، إرضاء للآنا الباحثة عما يُرضي بعضاً من تطلعاتها المكبوتة، وتحقيق التوازن المطلوب للاستمرار في العيش دون مركبات نقص أو خوف من الأخر، والسعي لتحقيق مصالحة مع النفس، وترديد قولة نيتشه على لسان زرادشت: (عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لأنه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك)

لقد كانت نعمة أخر عشيقاته اللواتي كن كثيرات، وكان يغيرهن كما يغير قمصانه، ولا يتردد في دخول مغامرات غرامية دون تقدير للعواقب والتبعات، ويفرط في القفز من حضن إلى أخر، ولا يكاد يرسو على برّ، كان شخصا بوهيميا يمارس جنونه الموسوم بجرأة ظاهرة ولا مبالاة فاضحة، كانت المرأة هي عالمه الوحيد الذي يجد فيه السلوى، ولم تكن الجَرّة تسلم في بعض الأحيان، فقد كانت المشاكل تنزل عليه كالمطارق فتشج رأسه وتدفع به إلى أتون مُزهرٍ، لكنه كان يتدارك الأمر ويحلها باللجوء إلى الحيل والمواربة تارة، أو الكذب والمراوغة تارة أخرى، لكنه في أخر الأمر أُصيب بخيبة أَمل لا حدود لها وأصابه الملل من كثرة المطاردات الدونكيشوتية التي كان يخوضها بحثا عن طرائد نسائية مفترضة، وفجأة ظهرت نعمة في حياته فغيّرت مسارها، وهي الخارجة من تجربة زواج فاشلة، أحس بأنه لم يعد قادرا على فراقها فأسر لها برغبته في الاقتران بها، لم تمانع ورحبت بالفكرة، فكلاهما كان في حاجة للأخر لكنها اشترطت عليه الهجرة صحبتها إلى كندا لأنها قد حصلت على عقد عمل مدفوع الثمن، بضمان من محام محلف، لم يتقبل الشرط، فقد كانت الهجرة بالنسبة له أخر ما يخطر على البال، لأنه كان يكفل والدته وأختيه ولا يستطيع التنصل من هذه المسؤولية من أجل عيونها، عند هذا الحدّ اختلفت المشارب وتباعدت الأهداف، فمضى كل إلى غايته، يسعى لما ساقته إليه الأقدار.

عاد إلى عادته القديمة بعد رحيل نُعمة، واندفع بنزق يبحث عن لحظة انتشاء تبدّد ما كان يعتمل في صدره من شعور بالكآبة بعد سفر نعمة، وأقبل دون وازع على خوض مغامرات غرامية، و هو مقتنع تماما بأن هذا الفعل هو الوسيلة الناجعة لاقتلاع طيف نُعمة من ذهنه، و تكفلت الأيام والأحضان النسائية التي كان يتنقّل بينها في تحقيق السلوان الذي كان يصبو إليه. ولم تمض إلا أيام قليلة على ما كان فيه من فوضى مشاعر، حتى ساقت إليه الأقدار فتاة أحلامه وهو عائد على متن القطار من الرباط إلى مدينته، فتزوجها وطوى صفحة الدون جوانية إلى غير رجعة.

تزوج فريدة بهدوء وبسكينة زائدة، دون ضجيج أو بهرجة مفرطة، صار بإمكانه الأن مشاركة زملائه وزميلاته في العمل أحاديثهم عن الأسرة ومشاكل الأولاد، فقد أكمل نصف دينه ولم يعد مشبوها، وكأن الزواج هو صكُّ الفضيلة ومانع الرذيلة، فهو “الجنس الحلال” وهو سدرة المنتهى والحصن المستدام للفرج الذي يقي من المعصية ويجنب المرء الأدواء العصِيَّة.

نام في العسل ربع قرن، ورُزق بالخَلفِ الصَّالح ذكورا وإناثا، وتقطَّعَت به السُّبل في تجاذب مسترسل بين الأحداث والأفكار والوقائع، وتَفَاعُلٍ مع الأشخاص فرادى وجماعات، هذه هي الحياة وعليه أن يعيشها بحذافيرها ويقبل بقواعد اللعبة، ويمارس طقوس الأبوة كما تقتضي الأعراف وتفرض سنن المجتمع، لم يعد يشرب خمرا أو يدخن سجائرا، وأصبح يكتفي بنظرات يسرقها من الغواني اللائي يصادفهن في طريقه.

فجأة، استيقظ من سباته الطويل، وانتبه إلى أنه قد دخل إلى مرحلة الكهولة، وأن شطط الأيام ساقه إلى فترة منتصف العمر وهو شبه منهك فكريا وعاطفيا، فقد أهمل كثيرا في منظره الخارجي، وصار همه الوحيد هو ضمان حاجيات الأبناء ودفع مصاريف دراستهم المرتفعة، ولا شيء يهم فيما بعد، لكن وخزا عجيبا مسه على حين غرة في مواضع متعددة من جسده وعقله أيقظ حواسه ودفع به نحو بؤرة الانفتاح على الحياة من جديد، فداهمه دون سابق إنذار شيطان الظُّهر، وإذا به يتحسَّس شعر رأسه الرمادي ويتأمل تقاسيم وجهه المنعكسة على المرآة، مُحياه مازال مشرقا وبقليل من العناية يمكنه أن يستعيد نشاط الأيام التي ولّت ويتلمس طريق استعادة شذرات من الزمن الضائع.

***

ضغط على هذه المشاعر المحدثة في البداية دون أن يتمكن من كبح جماحها، وحاول تصريف ضغوطها باللجوء إلى السفر صحبة زوجته، وممارسة بعضا من هواياته القديمة، عاد لكتابة الشعر من جديد، ومراسلة المجلات والمواقع، وحضور اللقاءات الأدبية والحفلات الفنية، كفَّ عنه شيطان الظهر حينا، فظَنّ أن الأمر قُضِي وأن السّكينة عادت لتعيده لجادة الصواب، وزمرة العقلاء الفضلاء.

مرت على لحظة الكمون التي دخلها سنة ونيف، إلى أن دعاه اِبنه لزيارة مدينة غرناطة التي استقر بها بعد اتمام دراسته في الهندسة المدنية، واختياره الاشتغال في إحدى الشركات الإسبانية صحبة زوجته التي كانت تشاركه نفس التخصص، اعتبرها فرصة لا تعوض فهو سيزور مدينة لسان الدين الخطيب الوزير الشاعر الذي كانت موشحاته تأسر قلبه، ويعانق تاريخ أسلافه المسلمون المغاربة الذين حكموا الأندلس سواء كانوا مرابطين أو موحدين، بعد أن عبّد الطريق أمامهم طارق بن زياد الذي كان له فضل الفتح المبين رغم تلكؤ موسى بن نصير، وشطحات سليمان بن عبد الملك الذي كان يرغب في أن يكون الفتح في عهده، تلك أيام مضت بما لها وعليها.

عندما وصل إلى مطار مالقا شّم عبير انتصارات المرابطين الذين دخلوها سنة 1090م بعد معركة الزلاقة، وانتشى بآثار المصامدة الموحدين الذين تسلموا مالقا سنة 1151م.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.