اللوحة: الفنان البرازيلي ماركوس جينوزا
كتابة الرواية مغامرة إبداعية فريدة، تجمع بين قوة الخيال والقدرة على بناء عوالم متكاملة وشخصيات تنبض بالحياة، لذا يطمح كل روائي مبتدئ إلى أن يأسر قلمه قلوب القراء وعقولهم، وأن يترك بصمة خالدة في عالم الأدب بنسجه تلك العوالم المتخيلة، ووضعها بين دفتي كتاب، لكن الطريق إلى احتراف كتابة الرواية ليس مفروشًا بالورود، فغالبا ما تعترض هذه الرحلة الإبداعية مجموعة من التحديات والعقبات قد تحول دون تحقيقهم لأحلامهم الأدبية، وربما يرتكبون بعض الأخطاء الشائعة التي قد تعرقل مسيرة أي كاتب طموح، واستنادا إلى رؤى وخبرات بعض الكتّاب العظماء، يمكننا الوقوف على أبرز هذه العقبات في محاولة لتجاوزها، مما يمهد الطريق أمام الروائيين المبتدئين لتحقيق آفاق إبداعية أرحب.
بين تدفق الإلهام وجودة العمل
كم هو مغرٍ أن تنتهي من كتابة رواية في وقت قياسي، وأن ترسلها على الفور إلى دار النشر! والمتعة الأكبر أن تجد إبداعك مولودا غضا بين يديك مدونا في كتاب!
إن اندفاع الإلهام الأولي قد يغري الكاتب المبتدئ بالتعجل في إنجاز روايته، والتسرع في نشرها، لكن الرواية، مثل أي عمل فني، تحتاج إلى وقت لتنضج، إنها أشبه بالبذرة التي نزرعها، ثم ننتظر بصبر أن تنمو وتترعرع ثم تزهر، إن هذه المرحلة من الكتابة تكون مجرد تدوين للأفكار المتدفقة في الذهن، وتتغاضى عن أهمية الصنعة الروائية التي تتطلب وقتا وجهدا لإعادة الكتابة والتحرير والتنقيح، والتسرع في إطلاق الرواية قبل مراجعتها وتنقيحها يشبه قطف الثمرة قبل أوانها – قد يبدو شكلها جذابا في عينك للوهلة الأولى، لكن طعمها بالتأكيد سيكون غضا، والرواية الناجحة تحتاج فترة من النضوج، حيث يمنح الكاتب شخصياته وأحداثه الوقت الكافي للتطور والنمو، وعليه تأجيل النشر لفترة بعد الانتهاء من الكتابة، لإعادة قراءة العمل بعين ناقدة واكتشاف الأخطاء والثغرات المحتملة.
البدايات المطولة: جذب لانتباه القارئ أم إضاعة للوقت؟
تعتبر بداية الرواية بالغة الأهمية، إذ إنها تحدد الانطباع الأول لدى القارئ وتحدد ما إذا كان سيواصل القراءة أم لا، ويقع بعض المبتدئين في فخ الإسهاب في الوصف والمقدمات المطولة، مما قد يؤدي إلى ملل القارئ وفقدان اهتمامه قبل أن تبدأ القصة الفعلية، إن البداية الناجحة هي التي تجذب القارئ منذ الصفحات الأولى، وتقدم لمحة عن الصراع الرئيسي أو تثير تساؤلات تدفع القارئ إلى مواصلة القراءة بشغف.
أتذكر – وقد كان شغفي الأول بقراءة الروايات – العديد من الروايات التي كانت تبدأ بمقدمات مطولة، غالًا ما كنت أفقد اهتمامي بها من الصفحات الأولى، وقد تعلمت منها أن البداية الجيدة هي التي تشبه القفز في الماء البارد، قد يكون الأمر صادما في البداية، لكنه يوقظ الحواس ويجبرنا على الانتباه، وهكذا القارئ يجب أن تجذبه البداية وتثير فضوله، بدلًا من إرهاقه بالتفاصيل غير الضرورية.
الشخصيات هل هي دمى أم كائنات تنبض بالحياة؟
الشخصيات هي العمود الفقري في أي رواية، فهي التي تحمل القصة وتتفاعل مع أحداثها. يميل بعض المبتدئين إلى خلق شخصيات نمطية أو مسطحة، تفتقر إلى العمق والتعقيد الإنساني، متناسين أن الشخصيات هي قلب الرواية وروحها. إذا كانت مسطحة وبلا حياة، فستكون الرواية جافة جوفاء. إن الشخصيات الجيدة هي التي تشبهنا – معقدة، متناقضة، ومليئة بالعيوب والمزايا، لذا، يجب أن نمنحها العمق والبعد الإنساني، وأن ندعها تتطور وتتغير مع الأحداث، والشخصيات الجيدة هي التي تمتلك دوافع واضحة، ونقاط قوة وضعف، وتتناقض فيها المشاعر والأفكار. يجب على الكاتب أن يفهم شخصياته جيدًا، وأن يعرف تاريخها وخلفيتها ودوافعها، حتى يتمكن من خلق شخصيات مقنعة وحقيقية.
الحوار بين تبادل المعلومات والتفاعل الإنساني
الحوار وسيلة مهمة لتطوير الشخصيات وتقديم المعلومات وبناء الحبكة وتعقيدها ودفعها نحو الحل، إنه وسيلة للتواصل بين الشخصيات، وكشف عن دوافعهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضا، والحوار الجيد هو الذي يبدو طبيعيا وتلقائيا، ولكنه في الوقت نفسه يخدم الحبكة ويكشف عن الشخصيات. الحوار المصطنع والمتكلف يشبه المحادثات الآلية – خالية من المشاعر والإنسانية، وقد يقع بعض المبتدئين في خطأ كتابة حوار مصطنع، يبدو غير طبيعي ولا يعكس طريقة تحدث الناس في الحياة الواقعية.
الحوار الجيد هو الذي يخدم أهداف الرواية، ويكشف عن شخصية المتحدث وعلاقاته بالآخرين، ويساهم في بناء التوتر والصراع، ويعطي الأحداث تشويقا يجذب القارئ.
الحبكة روتين في الأحداث أم عنصر مفاجأة؟
الحبكة هي تسلسل الأحداث التي تشكل القصة، فإذا كانت الحبكة متوقعة وخالية من المفاجآت، ستكون الرواية مملة منفرة، والقارئ يحب التشويق والإثارة، والحبكة الجيدة هي التي تأخذه في رحلة مليئة بالمنعطفات غير المتوقعة، إنها تشبه المتاهة، ندخلها بفضول، ونرغب بشدة في معرفة كيف سنخرج منها، وقد يقع المبتدئون في فخ الحبكة المتوقعة، التي تتبع مسارا تقليديا ولا تقدم أي مفاجآت أو تحولات غير متوقعة. إن الحبكة الجيدة هي التي تحافظ على تشويق القارئ وتثير فضوله، وتقدم له مفاجآت غير متوقعة تجعله يعيد التفكير في توقعاته.
الوصف لوحة فنية يرسمها الكاتب بعناية
الوصف عنصر مهم لخلق الجو العام للرواية وتصوير المشاهد والشخصيات، وهو يشبه الريشة في يد الرسام، يمكن أن يخلق صورا حية وجميلة في ذهن القارئ، ولكن الإفراط في الوصف يشبه الثرثرة المملة تماما، يمكن أن يشتت الانتباه ويجعل القارئ يفقد صبره، ومع ذلك، قد يقع بعض المبتدئين في خطأ الإفراط في الوصف، وتقديم تفاصيل كثيرة وغير ضرورية تثقل كاهل القارئ وتبطئ إيقاع السرد.
إن الوصف الجيد هو الذي يختار التفاصيل بعناية، ويستخدمها لخلق الجو المناسب ونقل المشاعر، ورسم صورة حية ومؤثرة في ذهن القارئ، دون الإسهاب في تفاصيل لا تخدم القصة.
التنميط والابتذال: أصالة الإبداع أم تكرار المستهلك؟
من المغري والسهل عند الكتابة أن نستخدم القوالب الجاهزة والصور النمطية في تصوير الشخصيات والمواقف، مثل: الشرطي الفاسد، والعالم المجنون، والبطل المثالي، وغيرها من الصور النمطية المعروفة، ولكن هذا الأمر يقتل الإبداع، وعلى الكاتب أن يسعى إلى الأصالة، وأن يخلق شخصياته الفريدة والمبتكرة، وأن ينظر إلى العالم بعيون جديدة، وقد يلجأ المبتدئون إلى التنميط كحل سهل، ولكن ذلك يؤدي إلى خلق شخصيات وأحداث مبتذلة ومكررة، والكتابة الجيدة هي التي تتحدى تلك الصور، وتقدم رؤى جديدة وأصيلة ومبتكرة للقارئ.
رحلة مستمرة نحو الإتقان والإبداع
إن كتابة الرواية رحلة مستمرة من التعلم والتطور، وهي مليئة بالتحديات والصعوبات، وبالمتعة والاكتشافات، ويجب على الروائي أن يكون مستعدا لارتكاب الأخطاء والتعلم منها، وأن يسعى دائما إلى تطوير مهاراته وصقل موهبته، فالأخطاء جزء من هذه الرحلة، وفرص للتعلم والسعي للإتقان والإبداع. ومن الضروري أن يصقل الكاتب عقله بالقراءة، وأن يحلل أعمال الكتّاب المبدعين، وأن يطلب آراء النقاد والقراء، والأهم من ذلك، أن يكتب بشغف وإخلاص، وأن يؤمن بقصته وقدرته على روايتها بأفضل شكل ممكن، وكما قال ماركيز: أتفق مع إن الكتابة تشبه الحياة نفسها، مليئة بالعثرات، ولكنها تستحق العناء. فلنستمتع إذن بالرحلة، ولنكتب قصصًا تلامس القلوب وتثير العقول.
