أمنية

أمنية

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان الإنجليزي ريتشارد بيفيس

صفق الباب عند خروجه من البيت دون أن يقول شيئاً محدثاً نفسه: لو أحصيت عدد خطواتك فربما جاوزت عدد انفاسك، في كل يوم وأنت من الصباح الباكر تجوب الطرقات، وسينتهي هذا اليوم كسابقيه دون أن تحقيق أمنيتك. ربي ارزقني من رزقك ياكريم فلأسرتي احتياجات لا أستطيع تلبيتها، فلماذا ربي أنا من بين كل الناس اسعى ولا أجد بركة؟ 

  • ما بك تجلد ياكريم ستفرج والله أنت في نعمة، هههه.. نعمة؟ أية نعمة؟ 
  • نعمة الصحة والقدرة على العمل. لقد مررت بأزمات كثيرة وخرجت منها، لا ينقصك إلا الرضا والتقوى.
  • ليتني أجد رزمة من المال.. فقط أسد حاجتي، وأعيد الباقي.

الغريب في الأمر أن كل من يعرف كريم كان يعرف أمنيته، وبينما هو شارد يحدث نفسه ارتطمت قدمه بكيس!

  • تريد رزمة مال! ههههه.. ها قد ارتطمت بكيس قمامة، هيا قم بعملك وضع الكيس في الحاوية. 

انحنى كريم لرفع الكيس الذي تدل محتوياته على أنه ليس بكيس قمامة، فتحه وأذ فيه رزم أموال تكفي حاجته وتفيض، وضع الكيس تحت إبطه خلسة واتجه متضائلا صوب البيت، استعاد ثقته في البيت وأضاف عليها، طلب من زوجته وعاء له غطاء، وكأسا من الشاي مستغربا صوته وأسلوبه، ولم يرد على أسئلتها، وضع الوعاء على المنضدة والمال فيه وجمع أفراد أسرته، وعندها سأل كل منهم حاجته، واستمع إلى الجميع، ثم رفع الغطاء وقال: لقد وجدت هذا المال فليأخذ كل منكم حاجته، نظروا إليه وألى المال بدهشة، ولم يتقدم أحد لأخذ أي شيء من المال، قال: حسنا هذا المال سيبقى هنا حتى الصباح فكروا، وليقرر كل

منكم المبلغ الذي يحتاجه ويأخذه، وذهب إلى النوم.

***

استيقظ كريم وقبل أن يغسل وجهه تفقد المال، ووجده كاملا! ولما اجتمعت الأسرة على مائدة الإفطار، قال كريم: نعم كم المبلغ الذي أخذته يا أحمد لشراء اللابتوب؟ رد أحمد: لم أخذ شيء يا والدي سأتدبر أمري.

وتوالت أسئلته على جميع أفراد أسرته إلا أنه لم يشأ أحدهم أن يأخذ شيئا.

قال: والله كنت أعلم أن هذا سيحدث، لكن كان لا بد من هذه التجربة من أجل وضع الأمور في نصابها. وضع المال في الكيس ودس في جيبه قصاصتي ورق كانتا برفقة المال مكتوب فيهما بعض الأرقام وخرج قاصدا المسجد.

وضع الكيس أمام الأمام وقال له: وجدت هذا، ودون أن يعرف الأمام ماذا بالكيس قال له: سلمه لمحمد، ذهب كريم باحثا عن محمد فلم يجده فوضع الكيس في ركن محدد من المسجد وخرج مسرعا وكأنه تخلص من حمل ثقيل أثقل كاهله. 

دس يده في جيبه فوجد قصاصتي الورق، اللتان نسي وضعهما في الكيس وهو يجهل أهميتهما، فألقى بهما في الصندوق عند باب المسجد وتابع سيره لا يدري إلى أين وجهته، فقد كانت لديه رغبة محمومة في المشي، لا يفكر بشيء إلا في رغبته الحالية وهي المشي وليلقي من على نفسه كل مشاعر ليلته وكل هذه الشحنة التي رزح تحتها، وتلك الأمنية التي تمناها.

***

في المسجد تم الإعلان عن المال بالشكل الآتي: من فقد مالا فليحضر إلى المسجد لاستلامه، فتقدم عدد ليس بقليل وربما عددهم تجاوز العشرة، دهش الأمام.. أكل

هؤلاء فقدوا أموالهم أم هم لصوص؟ وفكر، كيف يكون هناك من رفض أن يأخذ مالا وجده على قارعة الطريق، وهناك من دخل إلى بيت الله يدعي أن المال ماله؟ فوضع خطة في نفسه ليكتشف من هو صاحب المال، ثم خرج من عندهم وأرسل محمد إليهم وقال له أرسلهم عندي واحدا تلو الآخر بفاصل زمني محدد.

***

دخلوا واحدا واحدا عند الإمام الذي وضع أمامه أكياسا ثلاثة وقال لكل واحد منهم: رجل وجد هذه الأكياس في شارع المنصور، هل هذه الأكياس كلها لك أم واحد فقط؟ والكل أخفق بتحديد الكيس أو بتحديد المكان، إلا واحدا كان أكثر ذكاء وفكر في نفسه إذا وجد المال في شارع المنصور فلماذا لم يسلمه الرجل إلى إمام مسجد شارع المنصور البعيد عن هنا؟ فقال للإمام أنا لم أفقد المال في شارع المنصور إنما قريبا من هنا ولا أعرف أين سقط بالتحديد، ولو كنت أعرف لبحثت عنه في نفس اللحظة، وأشار إلى أصغر كيس مفكرا أيضا، بأنه لو كان المال في إحدى الكيسين الكبيرين فلا يمكن أن يسقط دون أن ينتبه صاحب المال لذلك. فأيقن الأمام أن الكيس له، وتبادل الكلام معه وقال: هل من السهل أن تفقد مبلغا كهذا؟ فلولا أمانة كريم لما عاد إليك هذا المبلغ؟ كم كان المبلغ بني؟ فما كان من الشاب إلا ان نطق بأول رقم خطر على باله، وقال: مليون ومائة وخمسة عشر ألفا، وعند محاولة الإمام لفتح الكيس للتأكد، رفض الشاب وقال: يجب أن لا نطعن بأخلاق من سلم الأمانة، لكن الإمام أصر، وتم عد محتويات الكيس، ووجدا نقصا حادا فاستشاط الشاب غضبا وقال: لا يمكن المبلغ كان مليون ومائة وخمسة عشر ألفا، ثم أردف لا بأس شكرا له لأنه أعاد جزءا من المبلغ ربما هو بحاجة للذي أخذه، اسمح لي بالمال ودعني أذهب، وسامح الله من أخذ أي شيء ليس له. لكن الإمام تحفظ على المبلغ وقال: يا ولدي انتظر إلى الغد ولن تأخذ مالك إلا كاملا، ودارت الشبهات حول كريم، الذي أبتلع لعابه ولم يجده لأنه جف من هذا الموقف، ولأنه وجه الظنون نحو أسرته، مفكرا أنه قام بعد الرزم عند الصباح، لكنه لا يدري إن بقي محتوى كل رزمة كما هو، فهل تسربت أمنيته إلى أفراد أسرته أو لأحدهم؟ ثم دارت الشبهات حول محمد الذي كان المال بحوزته لفترة لا بأس بها، فلربما ضعفت نفسه أمام المال وأخذا مبلغا هو الآخر.

وبدأ التحقيق مع كليهما، كل على حده للبحث عن الحقيقة، وكان يطول الجدال ويحتد النقاش بين الإمام وكريم وبين الإمام ومحمد وبين محمد وكريم دون فائدة إلى أن قال الإمام: اسمعا خذا المال ولن استلمه منكما إلا كاملا فالفرق كبير بين مليون ومائة وخمس عشر ألف وبين سبعة مائة وخمسون ألفا وهنا تذكر كريم القصاصتين وتذكر أنه قرأ هكذا رقم ولم يعره بالا، فأسرع إلى صندوق النفايات يبحث عنهما ولحسن حظه لم يتم إفراغ الصندوق، وأبرز دليل براءته وبراءة محمد حيث تحتوي القصاصتين على المبلغ الكلي وفئات الرزم وعددها، وعند مواجهة الشاب بالحقيقة خرج خجلا ذليلا، بعد افتضاح أمره، واقترح الإمام أن يوزع المبلغ بالتساوي على كريم ومحمد نظرا لأمانتهما ولأن صاحب المال الحقيقي لم يظهر، إلا أنهما رفضا وتركاه لأمام المسجد على أن ينتظر حتى ظهور صاحب المال أو يتبرع به للفقراء.

خرج كريم من المسجد وقال: محنة مرت بي، عرفت فيها معنى الأمانة والقناعة فعلا لا قولا، وعرفت فيها أن الغنى هو غنى النفس.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.