سعاد الراعي

يتناول هذا الجزء من قراءتنا التحليلية لكتاب نعومي كلاين العراق والحلقة المكتملة من «عقيدة الصدمة».. وكيف يتم تفكيك الدولة وإعادة تشكيل السوق بالقوة
- مقدمة
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحوّلت العراق من ساحة حرب إلى مختبر تطبيقي لنظرية اقتصادية متطرفة، تُعرف باسم “عقيدة الصدمة”. تُظهر نعومي كلاين، في القسم السادس من كتابها الشهير عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، كيف جرى استخدام الغزو الأميركي للعراق عام 2003 كأداة لتطبيق مشروع نيوليبرالي راديكالي، يعيد بناء الدولة العراقية على أسس السوق الحر تحت غطاء الاحتلال.
ترسم ناعومي كلاين صورة مرعبة للحظة “الصدمة الكبرى” هذه. تقول إن “المحو” لم يكن فقط بتدمير الوزارات والمرافق، بل بإلغاء الدولة ذاتها، ونزع أي شكل من أشكال الإدارة الوطنية، وفتح الأبواب للشركات الأمريكية لتعيد بناء العراق وفق مصالحها”.
(“كان العراق أول دولة يتم فيها تطبيق نموذج السوق الحرة من الصفر، بعد محو شبه تام للدولة..”) ص 455
“لقد سقطت بغداد ليس فقط أمام الدبابات الأمريكية، بل أمام أمواج لا تُرى من الحِيل الاقتصادية، التي أتت لا لتعيد الإعمار، بل لتُجري جراحة على اقتصاد بلد كامل دون تخدير” نحو ص 450
الهدف من هذا القسم هو تحليل المضمون الفكري والسياسي لما ورد فيه، من خلال دراسة البنية السردية، والرسائل الضمنية، والسياق العالمي المتكرر الذي يعيد إنتاج الصدمة كوسيلة للهيمنة. كما نسعى إلى ربط ما جرى في العراق بواقع اليوم المليء بالأزمات والحروب، في ظل عولمة اقتصادية لا تعرف غير منطق السيطرة والربح.
- يتألف هذا القسم من ثلاثة فصول:
1. الفصل السادس عشر: محو العراق
2. الفصل السابع عشر: الانفجار الارتدادي للأيديولوجيا
3. الفصل الثامن عشر: الحلقة المكتملة
حيث ترصد الكاتبة كيف تم تفكيك مؤسسات الدولة العراقية ليس فقط كأثر جانبي للحرب، بل كسياسة منهجية تهدف إلى إحلال السوق مكان الدولة، والمقاولين مكان المؤسسات.
“بدل أن يبنوا العراق، أعادوا تشكيله في صورة السوق المثالية: بلا ضرائب، بلا عوائق، بلا دولة” (ص. 459).
من خلال قرارات بول بريمر، حاكم العراق المدني، جرى إطلاق موجة خصخصة شاملة، وفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي، وإلغاء القيود الجمركية، فيما تم تفكيك الجيش، وتسريح الموظفين، وترك الشعب في فراغ أمني واقتصادي مدمر.
“الدولة العراقية لم تُرمم، بل أُزيلت واستُبدلت بشبكة من المقاولين” (ص. 490).
البنية السردية في هذا القسم تصعد من المأساة إلى الفضيحة: تبدأ بالتدمير، تمر بالخصخصة، وتنتهي بتحول العراق إلى شركة تحت إدارة الاحتلال. النص لا يعرض فقط وقائع، بل يستخدم لغة مشحونة أخلاقيًا لتوجيه الاتهام إلى المشروع النيوليبرالي.
“العراق لم يكن مشروعًا فاشلًا، بل كان مشروعًا ناجحًا لأولئك الذين أرادوا سوقًا بلا دولة، وأرضًا بلا مقاومة” (ص. 503).
تتجلى أهمية هذا القسم في أنه يقدم مثالًا واقعيًا على كيفية استغلال الكوارث والحروب لفرض أجندات اقتصادية راديكالية، في ظل غياب الحوكمة الرشيدة. يُظهر النص أن الاحتلال لم يكن فقط من أجل “نزع سلاح الدمار الشامل”، بل لتطبيق رؤية اقتصادية متطرفة تشبه ما حدث في تشيلي الثمانينيات، ولكن بأدوات عسكرية.
1. يربط الاقتصاد بالحرب.
2. يُظهر فشل النموذج النيوليبرالي في تحقيق استقرار.
3. يُحذر من تصدير هذه التجارب إلى دول أخرى تحت شعارات “إعادة الإعمار”.
إسقاط على واقعنا المعاصر
نصّ كلاين هنا يُشبه مرآة مظلمة لواقعنا العربي والدولي. فالعراق لم يكن آخر المختبرات. نحن اليوم نشهد نماذج متكررة لهذه “الصدمة” في فلسطين، في سوريا، في السودان، وحتى في المجتمعات التي ظنّت نفسها بمنأى عن ذلك.
“الحرائق التي أشعلوها في بغداد لم تكن خطأ في التقدير، بل جزء من المنهج: محو الذاكرة، تدمير الأرشيف، وتأسيس حاضرٍ مبتور، لا مرجعية له” ص 460
نرى تكرار هذه التقنية في كل موضع يُراد له أن يتحول إلى سوقٍ عاري من القيم، تهيمن فيه الشركات، وتُقصى فيه الهويّات، ويُكتم فيه الصوت الحر.
يُظهر القسم السادس من عقيدة الصدمة كيف تتحوّل الحرب إلى غطاء لتطبيق سياسات اقتصادية لا يمكن تمريرها في ظروف السلام. وفي عالمنا المعاصر، لا تقل خطورة هذه السياسات عن المدافع، لأنها تُعيد تشكيل الشعوب دون موافقتها، وتُحيل السيادة إلى ذكرى.
إن هذه القراءة لا تهدف فقط إلى التحليل، بل إلى التحريض على الوعي. لأن الصدمة القادمة، كما تحذر كلاين، لن تُعلن نفسها، بل ستأتي بهيئة فرصة.
قراءة تحليلية لكتاب «عقيدة الصدمة».. حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب (4)
* عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكوارث، هو كتاب للمؤلفة الكندية ناعومي كلاين صدر سنة 2009. يمكن اعتبار هذا الكتاب الموسوعي الضخم أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل المؤسسات والدول الكبري في العالم منذ ثلاثين عاما، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وإلى الآن.
المراجع:
• نعومي كلاين. عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث. ترجمة: فالح عبد الجبار. دار التنوير، 2007.
• Naomi Klein, The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism. Metropolitan Books, 2007.
• David Harvey, A Brief History of Neoliberalism. Oxford University Press, 2005.
• Antony Loewenstein, Disaster Capitalism. Verso, 2015.