عندما تدخل إلى عتبات رواية البلكي وممرات فتنته، لا تعرف كيف ستقودك البداية، ولا في أي متاهة يمكن أن تتركك، لكنك تجد نفسك منساقا خلف مغامرته السردية، ومنغمسا في عوالم شخصياته ونماذجه الإنسانية التي تخيرها من الصعيد عبر علاقات تربط أفراد أسرة بسيطة جلها من العمال والباعة الجائلين في فترة بناء السد العالي إبان العدوان الثلاثي على مصر، وامتدادا حتى عقد معاهدة السلام وما بعدها لقرب التسعينات من القرن الماضي، ويأتي العنوان يلخص جوهر الرواية التي تأخذ القارئ في رحلة داخل دهاليز النفس البشرية التي تتيه بين خياراتها وتحدياتها للواقع بمعطياته المحدودة، فتتخبط في ممرات متعددة من الفتنة المادية والمعنوية، الجنسية، والسلطوية، والتشككية، حتى فتنة البحث عن الحقيقة التي قد تقود للضياع أو الجنون، وقد لعب الكاتب على ثيمة الفقد، وأضاف لها رمزية تحمل معاني عدة، فهي تصور الحرمان والقهر والانكسار، وضياع الآمال والطموح والإيمان بالغد.
يختار الكاتب عتبته الأولى من أقوال فريدريك نيتشة: «صوت الجمال همسًا يتكلم، إنه لا يتسلل إلا إلى الأرواح اليقظة» مقولة تضع القارئ أمام مفتاح تأويلي للجمال، فهو ليس بالضرورة جمالا حسيا ظاهريا، بل قد يكون جمال الحقيقة، أو جمال الخلاص، أو جمال المعنى الخفي في المآسي والصراعات، وتَلقّي الجمال يرتبط باليقظة الروحية، فلا يتجلى إلا لمن يمتلك البصيرة، مما يوحي بأن الرواية قد تتطلب قراءة تأملية متعمقة، وأن شخصياتها قد تكون في رحلة بحث عن هذا الجمال الخفي وسط صخب الحياة و«ممرات الفتنة» التي قد تشغل الباحث عن الحقيقة، وتصرفه عن رؤيتها.
من حيث البناء السردي والتقنيات الفنية فقد اعتمد الكاتب على ما يلي:
- الصوت السردي المتعدد: تتسم الرواية ببناء سردي متعدد الأصوات، فالكاتب لم يعتمد على صوت واحد، بل يتنقل من السارد العليم، وهو سارد خارجي ليس له دور في أحداث الرواية، لكنه عليم بها وبكل ملابساتها، إلى السارد الداخلي المشارك في الحدث، ووجدناه يتنقل في ذلك بين شخصياته المختلفة، مما يمنح القارئ رؤية أوسع للأحداث، ويسمح بالتعمق في دوافع وتفكير كل شخصية. هذا التعدد يخلق نسيجًا غنيًا من التجارب والمشاعر التي تقرب القارئ من عالم الرواية، وتساهم في بناء جوها العام.
- تداخل الأزمنة: لم تلتزم الرواية بتسلسل زمني خطي صارم، لكن اعتمدت على الانتقال بين الماضي والحاضر، والذكريات التي تقتحم الواقع وتؤثر عليه، بل ربما أسهم الماضي الذي لا يني يطارد الحاضر كشبح، في رسم طبيعة شخصية معينة وأجبرها على اتخاذ قراراتها المستقبلية، مما ساهم في بناء عالم معقد تتشابك فيه الأحداث وتتداخل الأبعاد الزمنية. هذا يعكس طبيعة الذاكرة البشرية غير الخطية، وتأثير الماضي العميق على اللحظة الراهنة، وعلى سلوكيات الشخصيات وقراراتها.
- اللغة والأسلوب: لغة الكاتب تميل للغة الشعرية الفلسفية المكثفة، حيث يستخدم جملا غنية بالمفردات والتراكيب التي تحمل دلالات فلسفية شاعرية، ويستخدم الاستعارات والتشبيهات التي تضفي على النص عمقًا وبعدًا تأمليًا. هذه اللغة تساهم في خلق جو من الغموض والبحث عن المعنى.
- الأسلوب الوصفي العميق: برع الكاتب في وصف الحالات النفسية والمشاعر المعقدة للشخصيات كما وصف البيئة المحيطة بدقة، مما يسمح للقارئ بالغوص في دواخل شخصياته، ورؤية طبيعة حياتهم، وانعكاسات حالاتهم النفسية على تصرفاتهم.
- التصوير الحسي والمجازي: توظيف الأوصاف الحسية والمجازات يعزز من قدرة الكاتب على رسم صور حية للشخصيات والمشاهد في ذهن القارئ، سواء للمشاهد الخارجية أو للحالات النفسية الداخلية للشخصيات، فيستطيع فهمها وسبر أغوارها.
- الحوار: يلعب الحوار دورًا مهمًا في كشف دوافع الشخصيات وصراعاتها الداخلية، وطريقة تفكيرها وفي تطور الأحداث، وقد يكون حوارًا داخليًا (مونولوج) يعكس الصراعات النفسية، أو خارجيًا يكشف عن التوتر والتفاعل بين الشخصيات.
- الشخصيات وتحليلها: استطاع الكاتب رسم ملامح شخصياته بعمق، مبينا كيف تتشابك العلاقات فيما بينها من حب وكراهية وصراعات نفسية واجتماعية، وكيف تؤثر هذه العلاقات في رسم مصائرها، وهل يمكن للقارئ التعاطف معها أو فهم دوافعها حتى لو اختلف معها؟ وغالبا ما تكون الشخصيات الرئيسية هي المحور الذي تدور حوله الأحداث، وتظهر عليها علامات الصراع الداخلي والخارجي بشكل جلي، وتكون رحلتها النفسية وتحولاتها هي جوهر الرواية، لكننا نجد الشخصيات الثانوية أيضا تلعب دورًا مهمًا في دفع الحبكة، وتمثيل الأفكار والمفاهيم.
- القص والحكاية: حاول الكاتب تعميق الشعور بأن الحكاية أو القص هو الحل لتخفيف وطأة الحياة ومصاعبها، والنافذة التي تتيح لنا فهم دواخل الشخصية وطبيعة تفكيرها، الحكاية هي الطريقة البديلة التي يجد فيها القاص متنفسا، فهو يحكي مسببات الألم والفقد والانكسار واغتيال الحلم، فالحكايات التي جاءت على لسان الشخصيات كان لها دلالاتها النفسية التي تكشف عن الرغبة الدفينة في التكيف مع الحياة وتقبلها.
والرواية في مجملها تتميز بعمقها النفسي، حيث نجح الكاتب في رسم شخصيات معقدة وواقعية في اضطرابها، وفي الحفاظ على تماسك الحبكة وربط خيوطها ببعضها ببراعة، ودفع القارئ إلى التفكير في قضايا وجودية ونفسية، حيث تطرح الرواية أسئلة عميقة، وتدعو القارئ للتأمل في كيفية التعامل مع صدمات الماضي وتجاربه، ومدى هشاشة النفس البشرية أمام تلك الصدمات، وصراع الإنسان مع نفسه ومع الحياة، وأن الحقيقة ليس لها وجه واحد، فكل إنسان يراها ويفسرها حسب ثقافته ووعيه، فتتشكل من منظور كل شخصية وتجربتها، وهناك دائما بصيص من الأمل في البحث عن الخلاص، سواء كان في الحب والعطاء، أو في فهم الذات والبعد عن الأنانية، أو في تقبل الواقع كما هو.
إن «ممرات الفتنة» للكاتب مصطفى البلكي رواية تبحر في أعماق النفس البشرية وتتتبع مسارات معقدة من العلاقات الإنسانية، الهواجس، والصراعات الداخلية، من خلال بناء سردي يجمع بين الواقعية والسريالية الشعرية، يحاول الكاتب أن يستكشف مفهوم الفتنة بأبعادها المتعددة: ليست فقط فتنة الجسد أو المال، بل فتنة العقل، الذاكرة، والبحث عن الحقيقة في متاهات الوجود. الرواية تعد دعوة للتأمل في العلاقات البشرية، تداعيات الصدمات، وتأثير الماضي على الحاضر والمستقبل. إنها تجربة تحفز الفكر وتؤكد على أن رسالة الأدب الحقيقي تكمن في القدرة على استكشاف المسكوت عنه، وتقديم الجمال حتى في أكثر جوانب الوجود ألما. الرواية إضافة جيدة في نتاج الكاتب، تؤكد قدرته على نسج عوالم غنية تجعل القارئ في حالة من البحث الدائم عن الحقيقة في متاهات الوجود.

مصطفى البلكي
