سعاد الراعي

عقيدة الصدمة: الاقتصاد الكارثي كآلية للهيمنة المعولمة
- مقدمة
في عالم يتداعى على وقع الأزمات، لم يعد السؤال: “لماذا تحدث الكوارث؟” بل: “من يستثمر فيها؟”. تقدم الكاتبة الكندية ناعومي كلاين، في كتابها عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، تفسيرًا تحليليًا يستند إلى فرضية صادمة بحد ذاتها: أن الأزمات لا تُستغل فقط، بل تُصنع أحيانًا عن عمد، لتُستخدم كوسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات بحسب منطق السوق الحر المتطرف.
تركّز هذه الورقة على القسم السابع والأخير من الكتاب (ص 535–617)، الذي يُعد ذروة تحليل كلاين ومنتهاه، حيث تكشف فيه كيف تتحول “المنطقة الخضراء” من مجرد واقع أمني في بغداد إلى نموذج عالمي للسيطرة الاقتصادية على أنقاض المجتمعات.
أولًا: خلفية نظرية – مفهوم “الصدمة” كأداة سياسية
تستند كلاين إلى مزيج من العلوم الاقتصادية وعلم النفس الاجتماعي، مستندة إلى نموذج “العلاج بالصدمة” الذي وضعه الطبيب النفسي إيوين كاميرون، لتشرح كيف يُستخدم الانهيار الجماعي كفرصة لإعادة برمجة المجتمعات.
“حين نؤمن أن الكوارث حتمية، نصير نعتقد أن رد الفعل النيوليبرالي هو الحل الوحيد” كلاين، 2007، ص 590
1. تنظيف الشاطئ: الكارثة كساحة لإعادة الهيكلة
ترصد كلاين ما حدث بعد كارثة تسونامي (2004) وإعصار كاترينا (2005)، حيث استخدمت الشركات الكبرى والحكومات الفدرالية “الفراغ الناتج عن الدمار” كفرصة لإزاحة الفقراء وإعادة تصميم المدن لصالح مشاريع رأسمالية.
“تمت إزالة الأكواخ كما أُزيلت الجثث، واستبدلت بها مشاريع سياحية ومنتجعات” ص 541
2. كارثة الفصل العنصري: التحرر السياسي مقابل الاستعباد الاقتصادي
في جنوب أفريقيا، يظهر كيف أن الانتقال السلمي من الأبارتهايد لم يكن سوى إعادة إنتاج للهيمنة، إذ بقيت مفاتيح الاقتصاد بيد الأقلية، في حين أُعطي الشعب “حق الانتخاب” دون الحق في التوزيع العادل للثروة.
“لقد سلموا الحكم دون أن يسلّموا المفاتيح” ص 562
3. فقدان حافز السلام: النيوليبرالية تتسلل عبر بوابات التفاوض
في هذا الفصل، تشير الكاتبة إلى كيفية تحويل عمليات السلام، لا سيما في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، إلى أدوات لفرض شروط اقتصادية قاسية تحت غطاء “التسويات السياسية”.
ثانياً: الرسائل الضمنية – من بغداد إلى العالم
توظف كلاين “المنطقة الخضراء” كنموذج مجازي يُحاكي عالمًا مُحاطًا بجدران أمنية، معزول عن محيطه الشعبي، محكوم من قبل الشركات، ومغترب عن الواقع الاجتماعي. وتؤكد أن هذا النموذج يُستنسخ حاليًا في مناطق متعددة حول العالم.
“في زمن السوق، لا تبنى المدن، بل تُسوّى بالأرض، ثم تُباع كأحلام من زجاج” مستوحى من ص 546–550.
ثالثاً: إسقاط على الواقع المعاصر
في عالم اليوم، تتكرر عقيدة الصدمة بأشكال متعددة:
• في غزة، يُشترط الإعمار بموافقات أمنية دولية وتنازلات سياسية.
• في أوكرانيا، يتم رسم مستقبل الاقتصاد بينما لا تزال القذائف تتساقط.
• في السودان، تجهَّز الأرض للهيمنة الاقتصادية باسم “المساعدات”.
باتت الكوارث سوقًا، والخراب مادة خام لإعادة إنتاج الهيمنة.
رابعاً: الأبعاد الأخلاقية والمعرفية للكتاب
يتجاوز كتاب عقيدة الصدمة التحليل الاقتصادي إلى مجال الفكر المقاوم. إنه يستفز القارئ، لا ليتعاطف، بل ليفكّر، ويزرع في ذهنه بذرة الشك، والمقاومة، والتساؤل حول دور المثقف والإعلام والمؤسسات.
تقول كلاين في نهاية القسم السابع:
“حين تصير الصدمة قاعدة، تصبح الذاكرة جريمة، والمقاومة بدعة، والحلم ماضٍ لا يُستعاد” ص 610
المعرفة كفعل تحرّر
تكشف ناعومي كلاين، في القسم السابع من عقيدة الصدمة، كيف تتحوّل الأزمات إلى أدوات هندسة سياسية واقتصادية، تُعيد تشكيل المجتمعات على مقاس الشركات. إنها دعوة صريحة للوعي، للممانعة، وللتمسك بالذاكرة في وجه الآلة النيوليبرالية الجارفة.
إن قراءة هذا الكتاب، وخاصة في ضوء ما نشهده اليوم من حروب ودمار وتهجير، ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة دفاعية ضد تحويل الإنسان إلى مادة استثمارية، والألم إلى عملة اقتصادية.
قراءة تحليلية لكتاب «عقيدة الصدمة».. حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب (5)
المراجع
• كلاين، ناعومي. عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث. ترجمة: فالح عبد الجبار، دار التنوير، 2007.
• Klein, Naomi. The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism. New York: Metropolitan Books, 2007.
• Harvey, David. A Brief History of Neoliberalism. Oxford University Press, 2005.
• Loewenstein, Antony. Disaster Capitalism: Making a Killing out of Catastrophe. Verso, 2015.