زياد الرحباني..

زياد الرحباني..

اللوحة: زياد الرحباني بريشة الفنانة اللبنانية خولة طفيلي

في طفولتي المبكرة لم يكن لي من مؤنس غير الكتاب والراديو، أقرأ القصص وأستمع للأغاني والموسيقا، وأتابع الدراما بكافة أنواعها من خلال الإذاعة، أدور بين موجاتها وأتخير منها ما يسرق اهتمامي ويناسب خيالي الجامح، لكن دائما ما كان يطول مكوثي مع إذاعتي المفضلة – إذاعة الشرق الأوسط – التي كانت تخصص ما يقرب من الساعة والنصف وقت الظهيرة للمطربين، أم كلثوم وحليم وعبد الوهاب وفايزة وصباح وغيرهم، لكن يوم فيروز كان يوما مفضلا عندي أنتظره بشغف من أسبوع لأسبوع، ولا أعرف حقيقة سر ارتباطي بها، أهو صوتها الذي يهتف من السماء، أم اللحن الشجي الذي يحلق بك حيث تشاء؟ أما الكلمات، فقد كان بيني وبينها صراع وحوار، فاللهجة التي تغنيها غريبة علي، ومع صغر سني لم أكن أفهم معنى الكثير من الكلمات، حتى أني كنت أحفظ أغنياتها كما سمعتها، ولما كبرت ووعيت، تبين لي البون الشاسع بين ما حفظته في الطفولة وما هو حقا المعنى المراد، فعلى سبيل المثال وليس من قبيل الإطالة، كانت تقول يا عصفورة بيضا أي بيضاء اللون، وكنت أعتقد أنها العصفورة التي باضت في عشها بيضة، وتقول حاملين غمار زهور، وكنت أعتقد أنها حاملين غبار زهور وأتساءل في نفسي، لماذا يحملون غبار الزهور؟ وتقول وتشتي الدني ويحملوا شمسية، وأسمعها ويا حلو الشمسية، وتقول هدير البوستة، وأتعجب كيف للبوستة هدير، فكلمة بوستة عندنا تعني البريد، وغير ذلك الكثير، لكن الغريب في الأمر أنها كانت تحملني بأغانيها وقصصها المتضمنة داخلها إلى عالم خيالي أرتع فيه وحدي بحرية، أبكي معها وأحزن، وأقفز وأفرح، وأمتلئ بالشجن.

لم يكن وقتها – وعمري آنذاك عشرة أعوام – كل أغانيها مفضلة عندي، فبالطبيعة كان لبعضها أفضلية: أنا وشادي – سألوني الناس – حبيتك تا نسيت النوم – أنا عندي حنين – قديش كان في ناس – البوستة.. الخ. التي اكتشفت فيما بعد أن معظمها من ألحان زياد رحباني الابن البكر لفيروز، والذي لم أكن أعلم عنه شيئا، ولم أرتبط باسمه كما ارتبطت باسم فيروز فقد كانت تكفيني عمن عداها.

في الحقيقة، لم أسع للتعرف إلى زياد رغم تعلقي بألحانه، حتى جمعتني صداقة قوية ببعض الشعراء والمثقفين السوريين، ونصحني أحدهم أن أستمع لزياد بعيدا عن ارتباطه بالرحبانية، وأهداني مجموعة من أغانيه الخاصة بمسرحياته، في البداية أصبت بصدمة، وتولد بداخلي شعور مستهجن، ودهشت كيف تأتى له وهو في عمر السابعة عشرة أن يلحن سألوني الناس بكل هذا الرقي والرقة والجمال، بينما ألحانه الحديثة تأخذك من يدك لتجول بك ساخرة في الشوارع وتلقيك على الأرصفة، وتجلس بك وسط الحشاشين والمهمشين، ووجدتني أنساق خلف رغبة جامحة في اكتشاف سر افتتان جمهوره – خاصة الشباب – به وتقديرهم له، فعاودت الاستماع مرة ومرات، ووجدتني أسقط في بحر الشهد الذي تصيد به قلوب محبيه، وأخذت أبحث في سيرته، وأقرأ كتاباته وما كتب عنه، وعثرت على ديوانه “صديقي الله” فوقعت دون أدنى مقاومة في غرامه، نعم، فهو منذ بدايته يحمل موهبة وفكرا ونظرا لا يرقى له الكثيرون، في بساطته صدق، وفي سخريته فكر، وفي ألحانه رقي وشجن، شجن رهيف لا يغادرك بعدما تسمع له لحنا، أو تحلق معه في توزيع أغنية قديمة: أهو ده اللي صار – يا ماريا – البنت الشلبية.. الخ. رأيت كيف تأتى له، وهو ابن بيت ترعرعت فيه الموسيقا بشرقيتها المفرطة، وإيغالها في التراث مع اطلاعها على سيمفونيات العالم، أن يجمع بين القديم والحديث، ويصهرهما سويا ليخرج بألحان تحلق بك بجناحين، أحدهما يربطك بأواصر لا تنفك عن جذورك، والآخر يحلق بك بعيدا في سماوات الحداثة، فقررت بيني وبين نفسي أن أحاول اكتشافه بطريقتي، وأن أدون مشاعري ورؤيتي وتأثري به، لعلي ألقي حجرا في بحره الذي لم يبحر بعد فيه أحد بجدية يستحقها، ولم يتناول جوانبه النقاد كما ينبغي لهم أن يتناولوه، فهو صاحب الموهبة الفذة، والعبقرية المنسية، مثله مثل عظماء كثيرون لم ينتبه لهم أحد حتى وافتهم المنية، فأصبحنا نقلب أكف الندم على ما فاتنا، وكنا قاب قوسين أو أدنى من عظمته.

هذا هو، زياد عاصي الرحباني، ابن فيروز – نهاد حداد – الذي صنف من أفضل الموزعين الموسيقيين في العالم، أحد الخيوط المتينة التي ترفع أوطاننا ليبقى ذكرها في تاريخ الحضارة الإنسانية، ها هو يترجل مفارقا دنيانا، وكعادة العظماء، فارق في صمت بعد معاناة مع التغاضي والمرض والوحدة والكآبة، وإهمال الأوطان التي لا ترقى إلا بمثله، لكنه ترك لنا من أثره ما سيبقي ذكره للأبد. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.