تعاشق

تعاشق

اللوحة: الفنان الألماني فرانز مارك

ريم محمد

مع خُيوطِ الصَّباحِ الأولى فتحتُ عينيّ، وذاك البريقُ المتلهّفُ يُعانقُ قزحيتي، طارداً منها كل مالا يخدم صباحها الألق، وعلى عجالةٍ أسكتٌّ معدتي بلقمتين سريعتين ودفقة ماء. الوقتُ ينسابُ كذراتِ الرّمل من عُنق الساعة، شعوري يسبقه بكثير، حتّى أنني جاريته فسبقته، أذرعُ الغُرفةَ جِيئةً وذهاباً جسدي يصولُ ويجول وكأنّ روحي معلقةٌ من ذروتها، وباضطراد تزداد وتخبو إلا في ذلكَ الاتجاه…

نظرتُ باتجاه النافذة نحو بقعتي المفضّلة، قلبي يصعدُ ويهبط بطرقاتٍ مُتسارعة كقرعِ الطبول، ناداني الحنين حتّى أكل مني مأكلهُ، فلم يرفّ لي جفن ولم يتعّظ منّي العقل، جهّزت نفسي على عجالةٍ ودون أن أنبس ببنت شفة، أسرجتُ حصاني ومضيت، ولشدّة لهفتي نسيت القوس والنّشاب.

– وما فائدته صيّاد بدون قوسه ونشّابه؟! 

همهمت مبتسماً وقانعاً، مضيت بفرسي وأنا أحاور وأداور يمنةً ويسرة، باحثاً عن بقعتي المثالية، أخيراً أذعنتُ رغماً عنّي لضيق الوقت، لن أتراجع، لهفتي لمقابلة سربِ الغزلان تقضَّ مضجعي وعلى ذلك الأمل حكت ثواني الانتظار بلهفة عاشقٍ لن يتوانَى عن لقاء معشوقته. نزلتُ عن جوادي، أخفيته في منطقةٍ خفيضة، بعيدةٍ عن الميدان، أحطتهُ بما يحتاجه كي لا يقاطع جنونَ لهفتي. جلستُ خلفَ أكمةٍ متواريةٍ بين الأشجار، وأيقظتُ جميع حواسي، جمعتها في مقلتيّ، وقد عقدتُ العزم على اللقاء، فما كان منّي إلا أن غلبني توقي في تلك اللحظات، أثخنتُ انتظاري بلهفةِ الشوق، وسألتُ نفسي: تُرى.. ألم يحن الميعاد؟

ولم أكد أنهي تساؤلي الكتيم، حتى سمعتُ خطواتهنَّ الرّشيقة تقترب، ورغماً عنّي، ارتجفت يدايّ، وبحركاتٍ لا إراديّة بدأت تبحث، أقنعتها بصعوبةٍ ليس لها مثيل بالاستسلام، فأنا بدون سلاح في مواجهة سرب الجَمال! 

انساب العِطرُ من بين أناملي فوّاحاً لدرجةٍ أنني شممتهُ بروحي قبل أنفي، نعم، ثَملتْ.. تململتُ في جلستي، وإذ بظبيةٍ ترمقني بنظرتها، فالتقت عيوننا في حديث خُيّل إليّ أنّه طويل، أنا أناديها وهي تجيب، واختفى السّرب بجمالهِ الآسر دون أن تطوّقهُ عينيّ فقد طوّقه قلبي!

كوخي الجبلي يعي كل دفقاتِ شعوري منذ وطئته زائراً حتى تملّكته ذات حنين، فتملكني الدفء واستحلّني كما استحلّ ذلك البريق مكانه الملكيّ في دهاليز عقلي، وأثخن شراييني برغبة اللقاء والوصول، دون أن أعي حقيقةَ كَنهِ ذلك العشقِ الأسطوريّ وماهيتهُ، بيد أنني وفي كل مرّة أتناسى- عن قصد – ذلك القوس والنّشاب.. هذا اليوم رأتني إحداها، تلاقت عيوننا وتحدّثنا، كم كانت جميلة وهي تحرك أذنيها باحثةً عن سيل حروفي الذي لم أنطِقه، بل استساغته عيونها! نهضتُ على إثر ذلك مترنحاً، ثملاً، أفتّشُ في الأرجاء، وألعنُ الحظّ الذي لم يسعفني – كعادتي- ومشاعري المتناقضة تحيكُ ثوباً من طُمأنينةٍ واهية، أما عينيّ، تطارد ذلك الأثر وطُرقاتِ قلبي في إثرها تعزفُ وأستمع.

في طريقِ عودتي، طويتُ المسافات حتى الباب -كعادتي- مع حصاني، بيد أن عينيّ بقيتا هناك..!

رأي واحد على “تعاشق

  1. ينتابني حظور لعمالقة كانيس ومحفوظ واحسان وو .. وانا اطالع قدرتك الادبية ..

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.