اللوحة: الفنان الفرنسي كلود مونيه
أوقف الكهل سيارته على الجانب الأيمن من الطريق، ثم جذب بقوة فرامل اليد، وإن ترك محركها يهدر، تجاهل وجودي جواره. نظر في المرآة الأمامية بفضول نزع شعرة بيضاء تسللت إلى مقدمة رأسه..
ثم أغمض عينيه قليلًا، قال لي: أقدّر نسمة الهواء الرقيقة في ليالي أغسطس، لها تأثير السحر، أراها أشبه بهذه الفرامل التي تكبح رعونة الصيف قليلًا، بل هي أقرب لمذاق شفاه امرأة تلتقيها بعد جدب… أخبرني بذلك كأنما يلقي عليّ محاضرة علمية، غير أنه كان يوجه حديثه بالفعل للصحراء المحيطة بنا، لم يلتفتْ إليّ، ظل يلقي بيانه الخطابي إلى أحد ما.. غيري..
لم أشأ أن أعكر صفوه أو أقطع عليه لحظته السرمدية. لذلك تكوّمت على نفسي، رحت أتابع على ضوء عامود إنارة شاحب صراعًا مريرًا بين ثعلب ضئيل الحجم يسعى للنجاة بنفسه، ونمس وافر الصحة مبسوط الجسم، يطل الغدر والجوع من عينيه. آلمتني نهاية الثعلب المأساوية، وإن لم يطرف لي جفن لحاجة الحيوان الآخر للطعام، امتعضت وابتلعت ريقي بصعوبة، تذكرت الحياة بقسوتها، وأنها في حقيقتها مجرد صراع بين آكل ومأكول. ثم صرفت انتباهي عن المقتلة الجارية على مقربة، أغمضت عينيّ لأستمتع ببقايا النسمة العليلة،
لكن…
تسللت إلى أذني كلمات بنبرة خفيضة الصوت: اليوم هو الثاني من أغسطس، كل سنة وأنتِ طيبة يا حبيبتي، هذا يوم لا يُنسى، لحظة أستحضرها أمام عيني طوال العام، ثم توالت قبلات، ظلت لفترة تنهمر على شاشة هاتف في يده. لم تمر دقيقة وقد اختلطت القبلات بالهمسات وبقايا أشواق قديمة، خفّفت جميعًا من وجشة المكان الذي نقف فيه.
أثار الموقف انتباه النمس فتوقف عن التهام وجبة العشاء، ثم شبّ على قائميه الخلفيين، ورفع رأسه يتشمم الهواء، تتبع بعينيه الحادتين للحظات العربة بمن فيها وما يحدث، ثم عاد لشأنه، عدت بدوري إلى شرودي، عاد السائق إلى عالمه.
