ثمة كلام يجب أن نشطبه من دفاترنا

ثمة كلام يجب أن نشطبه من دفاترنا

مهدي النفري

اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر

لستُ أنا من يتكلم، بل ذاك الذي أهرب منه كلما ضاقت بي الطرق وأعود إليه كلما ضلّتني الذاكرة. أنا ذلك الكائن الموزّع بين ماضٍ تآكلت ملامحه ومستقبلٍ مرّ بي كعابر سبيل لم أفلح في مصافحته. في هذا المقهى الصغير حيث يتسكع دخان السجائر كأرواح تائهة ويعزف المذياع لحناً عارياً من المعنى أعود إلى نفسي كغريبٍ نسي ملامحه في مرآة الغياب.

كل ما حولي هنا شظايا حياة، جلودٌ قديمة لقصصٍ لم تكتمل، طاولةٌ تحمل آثار فنجانٍ رحل صاحبه دون وداع، وكرسيٌ مثقلٌ بانتظارٍ لا يعرف النهاية. كم من غريبٍ جلس هنا يرمّم أطرافه المهترئة بكلمةٍ عابرة أو نظرةٍ مسروقة؟

نحن جميعاً كائناتٌ مكسورة نتقن لعبة التخفي، نرتدي وجوهاً ضاقت بأحزانها.

هناك ذات يوم شمسٌ حارقة وشارعٌ مزدحمٌ بالحكايات. كان صبيةٌ يركضون خلف كرةٍ من ضحك، وفرحة تُسرق من أفواههم قبل أن تصل إلينا. ذلك كان الوطن لا وطن السياسة بل وطن العشق والفوضى والجنون. كنا نحمل أحلامنا في جيوبنا كقطع حلوى مهرّبة نخشى أن تذيبها شمس الواقع.

لكن الواقع يا صديقي نهرٌ لا يعرف الرحمة. يجرف الحب، يمحو الذكريات، ويترك لنا نبرةً من الألم لا تنطفئ. ألا ترى أننا نعيش على خيطٍ رفيع بين الضحكة والشهقة؟ نترنح بين صوابٍ أحمق وجنونٍ حكيم. نبصق على التاريخ، على كل من مرّ من هنا وترك لنا إرثاً من الخراب والندم.

تلك الأغنية التي تعزف الآن ليست مجرد لحن إنها من صميم قلبي. أغنيةٌ قديمة عن الخذلان والرحيل، يمتد صوت المغني كخيط حريرٍ يلتف حول عنقي، يذكّرني بكل ما فقدته بكل الأماكن التي لم أعد أجدها. وربما يذكّرني بذلك الصديق الذي قال لي ذات غياب؛ نحن مجرد أوراقٍ قديمة يقرأها التاريخ ثم يلقيها في سلة المهملات.

لم أصدقه حينها لكنني الآن أراه نبيّاً من زمن الخسارات.

نحن مجرد أسطورةٍ صغيرة لم تُكتب بالكامل ولم تُروَ نهايتها بعد.

***

  • في فضاء الذاكرة

ما زلت أُعيد المشهد ذاته كأن الزمن لا يمضي، وكأنني عالق في دورة لا تنتهي من الحنين. أسبح في هذا الفضاء المترامي حيث تتلألأ النجوم كأحلامٍ معلّقة لم يُكتب لها أن تُلامس أرض التحقق. كل نجمةٍ هناك هي أمنيةٌ ماتت قبل أن تولد، وكل ومضةٍ هي رجفة قلبٍ لم يُسمع نبضه.

اليوم، رأيت صورتك بعد أعوامٍ من الغياب، رأيت ملامحك التي لم تُهزمها السنون، وصمتك الذي ظلّ ساكنًا فيك كأنك لم تبرحه يومًا. حاولت أن أقترب أن أسأل عن سرّ حضورك في لحظة رحيلي، لكنني كما يحدث دائمًا آثرت الصمت وتركت السؤال يتلاشى في الهواء.

نظرت إلى حقائب سفري ثم إليك. لم أجد فرقًا بينكما. كلاكما وجهٌ للغياب، كلاكما يحمل وداعًا لا يُقال ورحيلًا لا يُشرح.

***

  • اليد التي ترددت

لا أدري لماذا لم أمدّ يدي لأصافحك. كان الشوق يضجّ في صدري والرغبة في اللقاء تكاد تقتلعني من مكاني لكنني اخترت أن أترك كل شيء خلفي وأغادر.

ربما لأن المصافحة كانت ستكسر شيئًا هشًّا في داخلي شيئًا لم أجرؤ على لمسه.

***

  • ظلّ يشبهك

رأيت اليوم صديقًا آخر لا يختلف عنك في طريقة الرحيل. جلس في ذات المكان وتحدث كثيرًا، عنك، عني، عن كل ما كان. لكنني وللمفارقة نسيت كل ما قاله.

كأن كلماته كانت طيفًا عابرًا لا يترك أثرًا ولا يطلب ذاكرة.

***

  • المشهد الأخير

أكتب لك الآن مشهدًا أخيرًا

الناس جميعًا في شارعنا واقفون، يحدّقون فينا، يتناقلون الهمس والدهشة، يشيرون، يتساءلون، لكن أحدًا منهم لا يجرؤ على الاقتراب. كأن بيننا حجابًا من الحنين لا يُخترق،

وكأننا نُحاط بهالة من وداعٍ لا يُفهم لكنه يُحسّ بكل جوارح القلب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.