سلام عادل.. قراءة إنسانية لسيرة بطل (4)

سلام عادل.. قراءة إنسانية لسيرة بطل (4)

اللوحة للفنان العراقي محمود صبري بعنوان «البطل» تجسد مواجهة سلام عادل للإعدام

سعاد الراعي

في هذه الحلقة من سلسلة مقالاتنا عن سلام عادل نتوقف عند الفصلين الرابع والخامس من الجزء الأول من كتاب سلام عادل سيرة مناضل تأليف ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد.

الفصل الرابع من الجزء الاول: حين يتحول الصراع السياسي إلى اختبار أخلاقي: سلام عادل في مواجهة المؤامرات

1. مؤامرة عبد السلام عارف: نزق الطموح وغطرسة الفرد في مواجهة حلم الجماعة

كان سلام عادل يرى في عبد السلام عارف رجلاً مضطربًا، مدفوعًا بغرائز السلطة لا ببصيرة الثورةففي اجتماعات الحزب، وصفه بأنه “شخص متعجرف، لا علاقة له بالأوساط التقدمية، لا يحمل من الوعي إلا حنينًا أهوج للوحدة الفورية“.

لكن الملفت في موقف سلام عادل، لم يكن تشخيصه السياسي وحده، بل حرصه العميق على تحصين الحزب من الانجراف في صراع شخصيلم ينحدر إلى كراهية، ولا انزلق إلى خطاب التشهير. بل ظلّ ممسكًا بلغة “التحليل لا الانفعال”، مدركًا أن النضال ليس انتقامًا من الأفراد، بل مواجهة للبُنى الفاسدة.

هو لم يصف عارف بأنه “عدو شخصي”، بل رأى فيه تجسيدًا لتيار مضاد لمشروع العدالة الاجتماعية، وهذا ما جعله يصر على فصل المسألة السياسية عن الشخصنة، وهذا موقف قلّ أن يُحفظ في خضم الدم والخيانات.

2. مؤامرة الكيلاني: حين يُستدعى الشيطان ليخنق الثورة

في خضم الحديث عن مؤامرة الكيلاني، ينقل الكتاب مقطعًا من محاكمة تعكس حجم التواطؤ والدناءة، حين قال الكيلاني:

سأفعل كل شيء مع الشيطان إن لزم الأمر… حتى نقضي عليهم“.

وفي هذا المشهد المقيت، كان موقف سلام عادل يبرز بمثابة الضدّ النقيّ من هذا الانحطاط الأخلاقي. لم يواجه دعاة الانقلاب بالكراهية وحدها، بل بالثقة في الجماهير. لم يطالب بتصفيات، بل بنشر الوعي. لم يرَ في المؤامرة مناسبة للثأر، بل فرصة جديدة لاختبار صمود الروح الثورية.

لقد كانت تلك اللحظة واحدة من المحكّات التي تكشف كيف يكون القائد حاملًا للقضية، لا حارسًا لسلطة. وهو حين أدرك حجم الغدر الذي يُحاك، لم يتراجع إلى السراديب، بل دعا إلى التحشيد الشعبي السلمي والتثقيف الجماهيري.

3. مؤامرة الشواف: عندما يُرفع السلاح بوجه الشعب

في مارس 1959، تمرّد عبد الوهاب الشواف، ورفع السلاح في الموصل بإيعاز ودعم من قوى خارجية. حين سُئل سلام عادل عن هذه المؤامرة، أجاب في مقابلة صحفية بما يكشف عمق رؤيته الوطنية:

مؤامرة الخائن الشواف كانت حلقة من سلسلة المؤامرات الاستعمارية… لكنها فشلت لأن ثورة 14 تموز جاءت ساحقة، مدعومة بجماهير الشعب منذ لحظاتها الأولى“.

هذه العبارة ليست تحليلًا سياسيًا فقط، بل صيغة وجدانية لنُبل الإيمان بالشعب. لقد أدرك أن الدبابات قد تخرس الأصوات مؤقتًا، لكن الجماهير حين تنهض، تُخرس الدبابات ذاتها. كان يرى في خيانة الشواف محاولة اغتيال للإنسان العراقي قبل الجمهورية.

4. الاختلاف مع عبد الكريم قاسم: حين يلتقي الحذر بالحلم

لم يكن التباين بين سلام عادل والزعيم عبد الكريم قاسم صراعًا على سلطة أو تنازعًا على مكاسب، بل كان اختلافًا في الرؤية، وتباينًا في فهم طبيعة المرحلة التاريخية، بين من يراها فرصة لتأسيس دولة المؤسسات، ومن يتوجّس من تعدد القوى السياسية بوصفها تهديدًا لوحدة القرار.

آمن سلام عادل أن القرار الوطني لا يُؤمَّمُ بالعزل والإقصاء، بل يُبنى بالشراكة والاعتراف المتبادل، وأن ادعاء الانفراد، مهما حمل من نوايا وطنية، يفضي في نهاية المطاف إلى العزلة، ثم إلى الاستبداد، مهما كان ثوبه مدنيًّا أو عسكريًّا.

ولم يكن موقفه هذا ترفًا فكريًا، بل رؤية متكاملة عبّر عنها في وثيقة داخلية للحزب، عُرفت لاحقًا باسم البرنامج المرحلي، قدّم فيها تصورًا شجاعًا ومتبصرًا لدولة مدنية ديمقراطية، تقطع مع ماضي الإقطاع السياسي والاجتماعي، وتكسر هيمنة العسكر على الحياة الوطنية، وتؤسس لعراقٍ متعدّد القوميات، متصالحٍ مع ذاته، عادلٍ في توزيع الحقوق، قائمٍ على حرية الرأي لا على سطوة الانفراد.

كان حلمه أكبر من الخصام، وموقفه أسمى من ردود الفعل. لم يدعُ لإسقاط عبد الكريم قاسم، بل دعا إلى ترميم العلاقة بين الحاكم والجماهير، معتبرًا أن الحزب ليس أداة ضغط ولا عصا معارضة، بل مرآة صافية تعكس تطلعات الشعب، وتنأى عن الانفعال والهيمنة.

وحين بدأ قاسم يضيق ذرعًا بالحزب، وينزاح نحو الانغلاق السياسي، لم يواجهه سلام عادل بالغضب ولا بالتشهير، بل بفضيلة نادرة في العمل السياسي: العتب النبيل. كتب إليه مذكرة هادئة، تخلو من تهجّم، ومفعمة بروح المسؤولية، خاطب فيها الحاكم بوصفه شريكًا في الوطن، لا خصمًا في الميدان.

لقد التقى في تلك اللحظة حذرُ الحكيم مع حلم المناضل، ليصوغ موقفًا لا يُنسى: موقفًا لا يطعن ولا يُهادن، لا يُنافق ولا يُخاصم، بل يؤمن أن تصويب المسار لا يكون بتكسير الجسور، بل ببنائها على أساس الاحترام والوضوح.

ـــ الأبعاد الإنسانية والاجتماعية في شخصية سلام عادل أثناء العاصفة

في مواجهته لتلك المؤامرات، لم يتخذ سلام عادل دور “القائد المتسلط” أو “المنقذ البطولي”، بل ظلّ وفيًا لصورة المناضل الأخلاقي، الذي يعتبر النصر الحقيقي هو حماية الناس، وكرامتهم، وأحلامهم، لا كسب المواقع.

كان سلام إنسانًا أكثر من كونه زعيمًا.

  • حين استُفزّ لم ينتقم.
  • حين خُذل لم ييأس.
  • حين طُعن، لم يردّ الطعنة، بل سلّ سلاح الوعي الجماهيري.

لقد خاض سلام عادل صراعًا ثلاثيًا مع الغدر، دون أن يفقد إنسانيته. وكأنما أراد أن يقول للعراق كله:

نحن لا ننتصر لأننا نكره أعداءنا، بل لأننا نحب شعبنا أكثر.”

الفصل الخامس: بين السطور المشتعلة: قراءة في مواقف سلام عادل من وثائق الجزء الأول 

في الصفحات الاخيرة من الجزء الأول لكتاب سلام عادل: سيرة مناضل، لا نقرأ مجرد وثائق سياسية مجرّدة أو بيانات حزبية جامدة، بل نصغي، إن أنصتنا جيدًا، إلى خفقان قلب رجلٍ حمل وطنًا بأكمله على كتفيه، دون أن يتذمّر أو يهادن، رجلٍ لم يفصل يوماً بين مبدئيته الثورية وشغفه الإنساني، ولم يكتب كلمة إلا وكانت محفوفة بنبضات شعبه ومعاناته.

 1. وثائق تُكتب بالدم: موقف سلام عادل من الاستعمار والحرب

في “وثيقة جبهة الكفاح الوطني ضد الاستعمار والحرب” (ص 263)، نلمح رجلًا لم يكن يرى في الاستعمار خصمًا سياسيًا فحسب، بل جريمة أخلاقية تطعن في كرامة الإنسان العراقي. تنبض هذه الوثيقة بروح دفاعية سامية، لا عن حدود مرسومة على الخرائط، بل عن الإنسان المغبون الذي يُسحق تحت سنابك الاحتلال والتحالفات المشبوهة.

سلام عادل لا يصرخ في هذه الوثيقة؛ إنه يناشد، يُحاجج، يُنير. إنسانيته تطلّ من بين السطور حين يُصرّ على توسيع الجبهة لتشمل مختلف القوى الوطنية، في رغبة واضحة لتوحيد العراقيين لا خلف الشعارات، بل خلف المصير المشترك.

2. تأملات في الانكسار: صمت الجبهة وانهيار التحالفات

عند حديثه عن “توقف عمل الجبهة الانتخابية” (ص 269) ثم انتخابات 1954 (ص 272)، نرى سلام عادل لا يعالج الحدث كسياسي يعاين الخسارة، بل كمثقف عضوي يسعى إلى فهم الأسباب البنيوية للنكوص. هذه ليست وثائق تقييم عادي، بل صفحات اعتراف واعتبار، مزيجٌ من النقد الصارم والصدق المُرّ.

إنه لا يبحث عن شماعة يعلّق عليها الفشل، بل يُقارب المسألة بتواضعٍ ثوري، واضعًا نصب عينيه الإصلاح لا الانتقام، الوحدة لا التشظي، المستقبل لا اجترار الماضي.

3.  بيان ثورة تموز: لهجة رجل على موعد مع القدر

في نص بيان الحزب الصادر يوم ثورة 14 تموز 1958 (ص 285)، يكتب سلام عادل بلهجة رجل يعرف أن فجرًا جديدًا قد لاح، لكنه لا يضيع في نشوة الانتصار، بل ينبه إلى مهام المرحلة. هذه نبرة الأب الحريص، لا القائد المنتشي. لغته هنا لا تهتف بل تحذّر، لا تتغنى بل توجّه.

البيان لا يخلو من نبرة وجدانية مستترة، كأنه يُخاطب طفلًا وليدًا في مهد الثورة، يخشى عليه من غدر العواصف ومن سمّ الأقربين.

 4. عن الشواف والمؤامرة: الحذر النبيل

في حديثه إلى جريدة اتحاد الشعب حول “مؤامرة الشواف” (ص 287)، يبرز سلام عادل ليس كمحقق أو خصم، بل كطبيب سياسي يُشخّص داء الخيانة والانقلاب. لا تنزلق لغته إلى التخوين المطلق، بل تبقى مشبعة بإدراكٍ عميق لتعقيد النفس العراقية في ظل الاضطراب الوطني. إنه يُدين الجريمة لا الشخص، يُصارع الفكرة لا الفرد.

هنا نرى سلام الإنسان، لا سلام المؤدلج؛ رجلٌ لا يتشفى، بل يحزن على ما آل إليه بعض من أبناء الوطن.

5. ضد القومية التصفوية: العدل لا الغلبة

في رده على “المفاهيم البرجوازية القومية والتصفوية” (ص 295)، يتجلى البعد الفلسفي في فكر سلام عادل، إذ يدافع عن وحدة الشعب لا كحالة رومانسية، بل كضرورة نضالية. يقف ضد قومية تُمزق، وضد يسارٍ يلين، دون أن يقع في فخ التنظير الجاف. يكتب بصلابة المثقف الذي لا تغريه الأهواء، وبعقلية المفكر الذي يسند أكتاف الجماهير.

6.  ريف العراق: وجهة نضالنا (ص 345 وما بعدها)

تكتسب الوثائق الأخيرة المتعلقة بالنضال الريفي بعدًا إنسانيًا خاصًا. إذ يرفض سلام عادل اعتبار الفلاح كتلة مستغلة صامتة، بل يرى فيه الإنسان الكامل، القادر على الوعي والقيادة. اهتمامه بالريف لم يكن مسألة تكتيكية، بل فعل إيمان بالمحرومين، وتصحيحٌ لميزان الكرامة في وطن خنقه التمدن الزائف.

إنه هنا يُعيد توزيع الضوء على الأطراف، موقنًا أن الثورة لا تُصنع من فوق، بل من عمق التراب.

هذه الوثائق ليست مجرد أوراق حزبية محفوظة في أرشيف، بل هي مرآة لضمير رجل لم يساوم على مبادئه، ولم يفقد بوصلته الإنسانية في متاهات العمل السري والنضال السياسي.

إن من يقرأ هذه الصفحات بعين الأدب وقلب التاريخ، لا يخرج منها إلا وقد انحنى إجلالًا لرجلٍ كانت قضيته هي الإنسان… كل إنسان.

سلام عادل لم يكن بوق أيديولوجيا، بل شاعرًا بالفطرة في خطابه، وفيلسوفًا في رؤاه، ومقاتلًا في ساحات النضال، وأبًا عطوفًا على أبناء العراق كافة.

لقد كتب سلام عادل لنا هذه الوثائق لا بالحبر، بل بالنار والدمع. وفي كل سطر من سطورها، كان يزرع فينا بذور وطنٍ أجمل، وإن لم يحصد ثماره، فقد علمنا كيف نرعاه.


سلام عادل.. قراءة إنسانية لسيرة بطل (3)

*«كتاب سلام عادل سيرة مناضل» تأليف ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد” من جزئين، الطبعة الأولى 2001 دار المدى للثقافة والنشر.

الشهيد سلام عادل كان سكرتيراً للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وأنه أعتقل في 19 شباط 1963 بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود الذي قام به حزب البعث والقوميون وأنه أستشهد في 6 آذار 1963 في قصر النهاية ببغداد وأنه تعرض لتعذيب شديد تقشعر له الأبدان على يد المجرمين الفاشست من الحرس القومي حيث شوّه جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين وكُسرت عظامه وقطعت بآلة جارحة عضلات ساقيه وأصابع يديه وقُتل معه بعد الانقلاب آلاف الشيوعيين والديمقراطيين والعديد من قادة الحزب منهم محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة وجمال الحيدري وجورج تللو .

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.