قبل أن يصبح الزمن لصًا.. للشاعر البلجيكي خيرت يان بيكمان

قبل أن يصبح الزمن لصًا.. للشاعر البلجيكي خيرت يان بيكمان

اللوحة: الفنان الأميركي جيم موسيل

ترجمة مهدي النفري

ما أثر فيّ بعمق كانت أيام الآحاد، تلك الواحة الهادئة في التاريخ الصغير لأسبوع. خاصةً حين كان الصيف يستبدّ بأرضٍ عند مكانٍ ما حيث يستسلم المرء لذلك الشغف مستحضرًا أغنيةً (لويم سونيفيلد) أتساءل لماذا لا تنسى بعض الأشياء بالذات، الضوء الشاحب، الطرق الخالية من السيارات، قريةٌ تكاد تتلاشى مع زفرة ريح، ربما طفلٌ على دراجةٍ يعبر من ثقب إبرة الحي الصغير، وبعض آثار عجلاتٍ حفرت صمتًا عميقًا في مهنةٍ قديمة. 

كانت تلك الأيام تختتم بفاصلةٍ كنوعٍ من المفردات التي سبقت طوفان الأزدهار الذي اجتاح الحياة. مجرد تعبيرٍ ملطفٍ عن زمنٍ سمح لنفسه بالاستراحة في حقول القمح. كنت ترى منظرًا يتوسل ألا يُلمس يغلفه ضوء المساء بلطفٍ وكأنه يمنحه ختم القبول. وكأن تلك الأرض كانت ملكًا لنا لأننا لم نكن نملك شيئًا بعد فامتلكنا كل شيءٍ في الحلم قبل الأسفار التي سنقوم بها لاحقًا.

من حين لآخر كان بعض الوقت يمر، همهمةٌ في الخلفية لكنها كانت متقطعةً فلم يلحظ أحدٌ ذلك أو يضل طريقه. أما القائمة الطويلة من التفاصيل فتستحق عمودًا في جريدةٍ بالية، خواءٌ لم يمتلئ بعد، حقولٌ خضراء وصفراء، رقعةٌ من قماش الرسام، نبتة القراص تزيّن نزهةً، بينما أشجار البتولا تُنسب لها حفيفٌ لطيف. كل ما تراه كان بريئًا، الحياة تنسج نفسها أمام الأعين، بياض الكتان على حبال غسيل السكان، وقميصٌ خفيفٌ يبذل جهدًا كبيرًا في مهب الريح ليجف. وكأن كل تلك الذكريات لا تزال تراني، أسير بخطواتٍ صغيرةٍ في شارعٍ منسي محملًا بجميع الأدوية التي ستخفف قسوة الواقع الذي كان وشيكًا. 

كانت المدن تنتظر وراء الأفق مثل السنوات التي لم تأتِ بعد. لكن قبل ذلك كان هناك صبرُ نباتات الظل وبداية الخريف، والصليب المعلق على جدران البيوت والعزلة داخل الرأس الصغير، وغروب الشمس فوق كلبٍ وطعام البطاطا. وفي ساعةٍ محددةٍ يصدح لحنُ سيارة الآيس كريم مثل ترنيمةٍ، انتظارٌ طويلٌ يملأ الشارع حتى يختفي اللحن عند منعطف الطريق. 

بعد ذلك فقط بدأت الأشياء تتمدد عند الحدود، اتسع الفضول ولم تعد الفتيات وحدهن لعبة الألعاب. أمسك ذلك الزمن بيدي كما فعلت سبعينات القرن الماضي، كفيلم فرنسي بطيء الألوان وكان له تأثيرٌ حاسمٌ، أدرك الآن أنني لا أستطيع أن أكذب فهو يسكن شعري أيضًا. الحنين، الشجن، من يقرأ هذا النص يقرأ نفسه أيضًا. لأنه كما وصفها شاعرٌ ذات مرة، إنها روماتيزم المشاعر. لقد حفر الزمن في داخلي مخزونًا لغويًا يسمح لي أن أكون تعيسًا قليلًا حتى يظل جميلًا أنني لا أقاوم ذلك. 

حتى الآن أعود إلى الجمل البعيدة، أرسم الأثاث الخفيف داخل وعاء الصوت، أرى اعتراف السطح الذي لم تُضحَّ فيه الأذن على مذبح الأرض. لأن هذا الشعور تسلل إلى قصائدي، أن الناس كانوا يغرقون في نوم الظهيرة، أنهم كتبوا بضمير النقطة والفاصلة، أنهم أبدعوا شيئًا حول منتصف نهار الخيال. كل ذلك من أجل الراحلين الذين علمونا إياه. لأن الناس لم يكونوا يؤمنون بعد بالهواتف الذكية، كانوا يتمتمون بالصلاة من أجل حصادٍ وفير، يكشطون بقايا فحم الأجيال وأحيانًا كان الفقر قوتهم. 

الآن يجب أن تُخبر الناس أن الظلال قدمت أبطأ تضحية، أنها كادت لا تتحرك وأنها بقيت بكل ما فيها من قيمة. كان عالمًا أقل وأكثر رفقًا، يحدث كالساعات التي سُمح لها بأن تكون مجرد إشاعةٍ بين الأحياء. كم كانت الأمور بسيطة، كان لديك أصابع لتعد كل شيء على يدٍ واحدة

مقهى القرية، عربة الخضار، طبيب القرية وشرطي على دراجة. كانت دروس الحياة كاثوليكية، وأخذت فرحة الكرنفال ساحةً بأكملها، بينما كانت السحب ترتوي ببطءٍ من ضوء العطلات. لا يمكن نسيان أن المقاعد الخشبية كانت مصنوعةً من ظلالٍ وارفةٍ من أجل رسائل فلاسفة الشوارع. 

قبل أن يصبح الزمن لصًا، كنت طفلًا يستمع بفمٍ مفتوح يصل إلى ما يقصدونه كبار السن، الذين فقدوا هم أيضًا أحلامًا في مكانٍ ما. لأدرك أن شيئًا ما يمكن أن ينتهي بمجرد أن تستيقظ في اليوم التالي. أن الزائل سيأتي، وأن الأبدية لن تكون كافية رغم كل الكلمات المحفورة في الحجر. وأنني سأصاب بالذهول إذا سألني أحدٌ عن الماضي. وأنني يومًا ما سأكتب قصائد وسأرسل رسائل إلى ملجأٍ لجميع أحلامي الضائعة. 

*مهدي النفري شاعر ومترجم صدرت له مجموعة من المؤلفات، تنوعت بين أعماله الشعرية وترجماته الأدبية. 


خيرت يان بيكمان (Geert Jan Beeckman) شاعر وصحفي بلجيكي، أصدر ديوانه الأول «في عمق الموسم» 2007، فحقق نجاحًا كبيرًا وحاز على جائزة هيرمان دي كونينك عام 2008 لأفضل عمل شعري أول، بالإضافة إلى جائزة مارك برايت للشعر عام 2009. بعدها أصدر ديوانين «عَصْفٌ ذهنيّ» 2011، «فصائل الدم» 2015. ينشر قصائده في مجموعة من الدوريات الأدبية المرموقة مثل «مجلة الشعر»، «الأرنب الكاذب»، «دِيوس إكس ماكينا»، «مياندر». وتم إدراج أعماله في العديد من المختارات الشعرية منها «امنحني الوقت» 2008، «المشي عارياً بأفكارك» 2012، «أفضل 100 قصيدة» 2012، (جائزة ف. س. ب للشعر، 2012). إلى جانب كتابة الشعر يشارك في معارض فنية من خلال دمج أعماله مع الفنون البصرية. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.