اللوحة: الفنان العراقي محمود صبري
في عالم الأسماك، ما زال الإنسان يصيدها بنفس “الطُعم”: دودة صغيرة تجذب سمكة كبيرة. وفي عالم الحيوان، قطعة جبن في مصيدة تجذب الفئران.ولن تتعلم الأسماك ولا الفئران، ولا بقية المخلوقات غير العاقلة.
المدهش أن الإنسان العاقل ما زال يُصاد بنفس الطُعم الأول!، فقصص الإنسان الأول هي نفسها قصص إنسان اليوم. الغريزة لم تُهذَّب، والحكمة غائبة أمام أدوات الصيد البشرية الأولى. وما زال “المال، الشهوة، العلو، المشاعر السيئة… إلخ” يصرع الناس. فكيف لم يتعلم الناس من أخطاء من سبقوهم وعاصروهم؟ وكيف لم تتراكم الحكمة بين الأجيال؟ لماذا ما زال الناس يُصرَعون تحت عجلات ما حذَّرت منه الملائكة: «يُفسد فيها ويسفك الدماء»؟
ارتقى الإنسان في كل ما يُيسّر له ظاهر الحياة من طعام وملبس وأدوات وعلوم، وما زال يحبو في ميدان الضعف، والخضوع للغريزة، ومنافسة مصائد الدنيا. ولهذا يجزع الإنسان حين يرحل، ويغادر مائدة الحياة متحسرًا حزينًا.
***
قال حكيم: “الذئب حين يصارع ذئبًا ويقتله لا يُمثّل بجثته، لأنه لا يريد أن يكتب قصة، ولكن الإنسان يفعل”.
فكيف هبط الإنسان إلى محاكم التفتيش الغربية، والخازوق العثماني، وحفلات ومسابقات سلخ الجلود الأمريكية، التي تمنح الجائزة لمن يسلخ الضحية وهي حية تتعذب؟
هذه المبالغة في الإيذاء والتعذيب لا يفعلها الحيوان، ولكن يفعلها الإنسان الذي يريد أن تُروى عنه قصص. وفي التاريخ من اندمج في نداءات الغريزة فقتل ابنه وأخاه من أجل السلطة، ثم لا يتبقى له من الحياة سوى المشاعر المُرَّة.
***
كيف طعم الحياة على شفاهنا؟
نظرتنا وحاجتنا للطعام حاجة غريزية تسد حاجة مؤقتة، فالذي ظل يتناول الطعام عشرات السنين ليس محصنا ضد الجوع، الواقع أنه سوف يشعر بألم شديد حين يُمنع من الطعام ساعات طويلة، وسوف ينظر بحسد لمن يتناول الطعام أمام عينه، ولا يسد أو يمنع حسده أنه أكل من الطعام الشهي عشرات السنين.
ولهذا فطعم الحياة على شفاه الغافلين الذين لم يُتقنوا الحياة، والذين وقعوا في فخاخها، والذين لم يستطيعوا أن يهربوا من القوة الطاردة المركزية التي تشدهم، ينظرون للشباب بحسد. وينظرون للأصحاء بحسد. وينظرون للعمر الذي مر بحسرة. وكأنها وجبات تناولوها وهضموها وفرغت معدة حياتهم، ويريدون أن يملؤوها ثانية، لأن الحياة خدعتهم.. أو خدعوا أنفسهم في الحياة.
***
هناك مثل آخر ومخالف لطعم الحياة في الشفاه.
هل ينظر طلاب السنة النهائية بالجامعة إلى طلاب المرحلة الأولى بحسد؟ وهل ينظر الحاصل على الماجستير والدكتوراه إلى خريجي المرحلة الجامعية بحسد؟.. هل من قطع مسافة كبيرة في السباق وأوشك أن يصل للهدف مبكرا وبنجاح، يمتلئ بالحنين أن يكون مكان من بدأ السباق؟.. الجواب: لا يمكن أن يخطر بباله إلا الشعور بالإنجاز، والشعور بأنه مثال وقدوة لمن هم في بداية الطريق.
***
هناك لعبة في الملاهي تقوم على أن يُربط الناس بأحزمة على سطح الجدار الداخلي لدائرة اسطوانية، تدور إلى أن تصل إلى سرعة معينة، تنفك الأحزمة أليا، يجد الناس أنفسهم ملتصقين بالحائط الدوار دون إرهاق ولا ألم، ثم تبدأ الاسطوانة في تخفيض السرعة وتعود الأربطة لتثبتهم ثانية، حتى تتوقف الاسطوانة عن الدوران.
في هذا المشهد العجيب يستحيل على الإنسان أن يهرب من قوة الطرد المركزي التي تثبته في الاسطوانة التي تدور، وقوة الطرد المركزي للمجتمع «بأفكاره وعاداته ونمط التعليم والسلوك والنفسية والعاطفة.. الخ»، تعمل بنفس الطريقة، فندور في دوائر الحياة التي اخترناها وقت السذاجة وتورطنا في جاذبيتها التي تتزايد قوتها كل يوم، وتوهمنا أننا أسرى لديها بلا إرادة.
***
حين يُفاجأ لاعب الكرة بقرار خروجه من الملعب ليدخل غيره، تتوقف مشاعره على إنجازه في الملعب. فلو أحرز هدفًا أو أكثر، لكان سعيدًا بخروجه، لأنه وُفِّق في المباراة. ولو كان مرتبكًا ومتخاذلًا في أدائه، لخرج غاضبًا ومتحسرًا، مغمورا بمشاعر الفشل.
هذا بالضبط شعور من يشعر بقرب رحيله من الحياة؛ ينظر وراءه إلى المباريات التي خاضها. فلو شعر بالجزع والندم، فلا بد أن مصدر هذه المشاعر هو ضآلة الإنجاز، أو إهداره لرصيد الحياة. ولو شعر بالرضا والسلام، فمصدر تلك المشاعر رضاه عن إنجازه في الحياة. ونحن نعلم أن أندر الناس من الصنف الثاني.
***
لاعب السيرك الذي يقدم فقرة من دقائق أمام الجمهور، وصل إلى هذه المهارة بعد تدريبات شاقة وجهد متواصل وزمن طويل. والمغرور من يظن أنه سيهبط إلى ملعب الحياة ليمشي على الحبل ويتمخطر دون دفع ثمن اكتساب هذه المهارة!
في الحياة، يتلقى الطفل والصبي والفتاة أسرار فك شيفرة الحياة من المجتمع. ولهذا لا بد أن يكون المجتمع أمينًا وعالمًا، وإلا فسيشقى أبناؤنا ويضلون.
***
والمجتمع الذي يُلقِّن الإنسان أن “عين الحسود فيها عود”، وأن “الأقارب عقارب”، وأن “الدكتور يتزوج دكتورة”، لا بد أنه يلقن أبناءه جهلًا مركبًا.فهذه النصائح قديمة وفقدت صلاحيتها، وحل محلها خلاصة تجارب وحكمة الإنسان. ولهذا أصبح من الضروري “تنقية” إملاءات المجتمع ونصائحه قبل سكبها في وعي أبنائنا، لأننا إن لم نفعل، نصبح السبب الرئيسي في شقائهم وخروجهم من رحلة الحياة بلا إنجاز.
***
في رحلة الحياة محطات ومنحنيات، وفي يد المسافر دليل الرحلة؛ ما المسافة؟ وما البلاد التي سيمر بها؟ وأين الاستراحات؟ وبهذا يضمن الوصول بسلام، لكن لو ظن أحد المسافرين أن بلدة من بلاد العبور هي مستقرة، أو أعجبته الاستراحة بما فيها من أدوات ترفيه، فمكث فيها وترك الرحلة، فلا بد أن هذا المسافر حين يفيق من اندماجه سيذوق ندمًا وحسرة، لأنه قطع الرحلة وأضاع سفره في تفاريع الحياة ومسالكها الجانبية، وهذا مثال لمصدر مشاعر “الفوت” وعدم الإنجاز.
***
قام المدرس بتوزيع أربعين بالونة على أربعين طالبًا، وطلب منهم أن ينفخوها، ثم أن يكتب كل تلميذ اسمه على البالونة، بعد ذلك، جمع المدرس البالونات في غرفة صغيرة، ثم طلب من التلاميذ أن يجد كلٌّ منهم البالون الذي يحمل اسمه خلال خمس دقائق، انتهت الخمس دقائق… ولم يستطع أي تلميذ أن يجد بالونته!، ثم طلب منهم أن يأخذ كل تلميذ أي بالون ويعطيه لصاحب الاسم المكتوب عليه، فتمت العملية خلال دقائق قليلة، وأصبح مع كل تلميذ بالون يحمل اسمه، وسعد الجميع!
عندها قال المدرس: “البالونات تمثل سعادتنا التي نبحث عنها، عندما كنا نبحث عن سعادتنا فقط، استحال أن نجدها، لكن عندما قدمنا السعادة للآخرين، منحونا السعادة، وسعدنا جميعًا”. فامنحوا السعادة للآخرين… تسعدوا.
في هذه القصة، خلاصة الحيلة التي يقع فيها الإنسان دائمًا: الإنسان يختار أن يفكر غرائزيًّا في نداءات نفسه، ويستعجل أن تكون السعادة في قبضته،ولو تعاون الناس معًا واختاروا الحكمة، لكانت أفعالهم مثلما فعل التلاميذ مع البالونات.
***
في المؤسسات، هناك تدريب روتيني على التعامل مع إنذار الحريق؛ عندما ينطلق الإنذار، يقوم كل شخص بالاتجاه إلى مخرج الطوارئ، وفي دقائق قليلة يخرج الجميع بسلام. ولولا هذا التدريب، لتكرر ما كان يحدث دائمًا، حيث يكون ضحايا التدافع والفزع أضعاف ضحايا الحريق.
الإنسان لا يُترك لردود الأفعال الغريزية، بل يُدرَّب على الحكمة، كما حدث مع المدرس والبالونات، وكما يحدث في تدريبات الحريق.
ومثال ذلك: الوقوف في الطابور. فالمجتمع الذي تعلَّم وتدرَّب على احترام النظام، سيتصرف أفراده بتلقائية وانتظام، ولن يعتدي أحد على دور الآخر.أما المجتمع العشوائي الغريزي، فتكثر فيه الفوضى والتدافع والخلاف، وتُهدَر الشفافية، ويعتدي البعض على دور غيره.
