مصر.. مسرح كبير

مصر.. مسرح كبير

اللوحة: الفنان الأميركي جان باسكيات

يدهشني إدمان المصريين للفصال والمساومة، يرفع البائع السعر، ويبدأ الفصال، ثم يصل الأمر إلى أن يهمّ المشتري بالمغادرة، وبعد خطوتين ينادي عليه البائع ليعود ويتم فصال سريع ويتوصلا إلى سعر مُرضٍ. تمثيلية سخيفة، وأسخف ما فيها السيولة! فالبيع والشراء يحتاجان إلى ثمن محدد: «هات وخذ». فلماذا هذه التمثيلية؟ ولماذا تستمر حتى اليوم؟

المساومة في البيع والشراء وعدم تحديد السعر للجميع فتحت ثغرة طمع بين البائع والمشتري، في هذه الثغرة تدور التمثيلية، ويضيع الجهد ويُستنزف الإنسان في عملية طمع ثنائي، ويتعوّد كلاهما على المساومة في كل شيء، وتركيز النية على الكسب على حساب الآخر.

لهذا نستطيع القول إن على المجتمع أن يجعل معظم عمليات بيع وشراء السلع خاضعة لأسعار ثابتة لا تتغير، وهذا ضروري لعدم برمجة الناس على تمثيلية المساومة وما يتبعها من غرس صفات وعادات خبيثة في النفوس.

آخر إحصاء عن نسب الطلاق للزواج الحديث رقم كبير جدًا وصادم. والغريب أن كلمة «حديث» لا تعني أنهم بلا أولاد، بل لدى أكثرهم أولاد وبنات. فنحن حين نتزوج نتسرع بالإنجاب لظننا أنه سبب لتجنّب الطلاق وتعزيز نجاح الزواج. وينال كل من المرأة والرجل شهادة الخصوبة بهذا القرار، لا ننتبه إلى أنها قد تكون ورطة.

وحين تتابع الإحصاءات تجد أن أغلبها ينتظر قرار القاضي. يندر — أو لا يوجد — من يعالج مشكلة الانفصال بدون محامٍ وقاضٍ. وهما الرابحان، ففي كل خطوة فاتورة ورسوم. وكل طرف يريد أن ينزع وَبَر الآخر أو يذلّه بالقانون المطاط، وكلاهما مسكين وضحية للحماقة ونسيان القاعدة القرآنية: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا» [النساء: 35].

الحكم في قضايا الأسرة سهل ومعروف كل شروطه وظروفه، فلماذا يدخل كل زوجين عبر المحاكم وكأنهم في بيت حجا، متاهة بلا هداية ولا نهاية طريق، الكل يدخلها ويشقى؟ هذه تمثيلية مشؤومة، والسبب هو الثغرات القانونية والحيل الإجرائية والروتين. الدولة الصالحة تريح الناس في المنازعات، ولا تتركهم ضحية احتيال أو سمسرة، والمشاكل الأسرية ليست اختراعًا ولا شيئًا نادرًا، بل هي قديمة قِدَم الإنسان. فكيف نتعامل مع مشاكل كل أسرة وكأنها المشكلة الأولى على ظهر الأرض؟ وبديهي أن المشاكل التي تطول تترك مشاعر سيئة وتفتح أبوابًا للشر بلا حدود. والعصر الحالي متقدم ويسهل جمع البيانات والمعلومات بسهولة، فتحسم القضية خلال أيام أو أسابيع قليلة، وإن لم نفعل فنحن نتعمد إفساد العلاقات وشقاء الناس وسريان المشاعر السيئة بينهم.

هل عدمت العائلتان، أو القرية، أو المدينة (وكل هؤلاء «أهلهما») أن يجدا حكمًا رحيمًا عدلًا يوفق بينهما أو يحكم بينهما بالمعروف والحق؟ حكمًا يساعدهما على التغلب على المشاعر السيئة وحضور الأنفس الشحيحة؟ لماذا يصرّ كلاهما على حل رسمي قاهر؟ لماذا الإصرار على تمثيلية القضاء والمحاكم وتبادل الكيد؟

تحدثت مع إحدى الزوجات التي أشهد بأنها مظلومة. حكت لي أنها طلبت شهادة أقربائها، وأنها خسرت القضية لأنهم قالوا: «سمعنا أنه يضربها»، ولم يقولوا: «رأيناه يضربها». وتلومهم على ذلك. فقلت لها: «ولكنهم يشهدون بالحق». فقالت: «ولكنه ضربني تكرارًا أمام أهله وأبي والجيران، ولكن لن يشهد أهله، ولن يشهد الجيران، ولن تُقبل شهادة أبي. فكيف آخذ حقي؟ لقد اضطررنا لشهادة الزور».

فنبهتها إلى أن الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ما لاحظته أن كلاهما متدين، غير أن القيم اضطربت حين جاء الخلاف القاسي المهين.

الاستعانة بالمحاكم والمحامي في أغلبها أشبه بالتورط في تمثيليات، بينما لو تدخل أهل الزوجين وأصحاب الثقة لكانت الحلول والفصل بلا تمثيليات.

حين نحتاج إلى استخراج أوراق رسمية، يُطلب معها حزمة أوراق أخرى مصاحبة، وكل ورقة ومستند وشهادة لها ثمن من عشرات الجنيهات. وحين تبحث عن هذه الأوراق تجد أنها تخرج من جهاز بيانات واحد وتعود إلى الجهاز نفسه! كل ما في الأمر أنها خرجت مطبوعة بثمن لتدخل ثانية إلى نفس المكان. عملية لا تُوصَف إلا بأنها تمثيلية لتبرير استنزاف المال. بينما في البلاد التي لا تدمن التمثيليات، تتم العملية برسوم معروفة دفعة واحدة في خطوة واحدة. لكننا نصرّ على التمثيليات، ونتجاهل مشاعر المواطن الذي يضيق صدره وهو مضطر لهذه التمثيلية التي جعلته ضحية، فيكره السلطة التي توشك أن تضع عدادًا على أنفه ليحسب أنفاسه، فيضعها في خانة الشرير الذي يستنزفه رغمًا عنه وبلا مبرر، وليس ولي الأمر الذي يحرص على مصلحته، وهذه المشاعر التي تنتج ليست في صالح المجتمع.

المسابقات للالتحاق بوظائف تمثيلية أخرى. فما أكثر الأقارب والمعارف! لا بد من إعلان، ومسابقة، وشراء أوراق للتقدّم، وعقد مقابلة، ثم انتظار النتيجة… وفي النهاية يفوز أبناء العاملين وأقارب المحاسيب والموعودون بالسعد. ومثلها تمثيليات الانتخابات والتصويت، عملية سطحية ظاهرية بلا عمق ولا شفافية، وظيفتها فقط مظهر ديمقراطية بنتائج استبدادية، وكله تمثيل، ينزع الأمل والثقة في وجود الشفافية، وينفّر المواطن من المشاركة في المجتمع بإيجابية.

انتقل إلى مؤسستنا التي أعمل بها موظف، وإذا به يبدأ علاقته مع الجميع بالشجار، ويصل به إلى أقصى درجة، ثم فجأة تراه يلين ويصالح الجميع ويبدأ معهم العلاقة الوظيفية بلا توتر. وبمرور الأيام حدث تقارب بيني وبينه وأصبح يثق بي، فصارحني بأنه له أسلوب متكرر: أن يتعمد الخلاف والقسوة مع المجتمع الجديد الذي يدخل إليه، ويتعلم من ردود أفعال الجميع مدى صلابتهم النفسية وسلوكهم مع الغضب والخلاف، بعدها يلين جانبه مع الجميع ويتفاهم. في الوقت نفسه يسجل في ذاكرتهم غضبته وخلافه، فيظلّوا حذرين من هذا الانقلاب.

هذه القصة غريبة ولكنها متكررة، فكثير من الناس يغضبون تمثيلًا ويختلفون تمثيلًا ويتصالحون تمثيلًا، وهذا سلوك ضار يساعد على شيوع النفاق.

التعليم نفسه لا يريد أن يرسو على محطة. لا يريد أن نلغي المدرسة والجامعة اللتين فشلتا تمامًا في أداء مهمتهما. ولا يريد الاعتراف بالدروس الخصوصية وتنظيمها. ولا يريد أن يترك العملية التعليمية تمامًا ويقصرها على نيل شهادة بامتحان، فيُعقد الامتحان بواسطة متخصصين ويُمنح الطالب الشهادة أو يُحرم منها. وفي الوقت نفسه لا يُشترط سنّ للمتقدم؛ ربما يحصل على البكالوريوس صبي/فتاة في سن الخامسة عشرة. فمسار التعليم الطويل أصبح بلا هدفية ومضيعة للعمر.

العملية التعليمية الطويلة والشاقة ما هي إلا تدريب على مشاعر الفشل والإحباط واليأس من طول الطريق المجهول المعالم، ولو سُدّت هذه الثغرة بترك التعليم للمجتمع المدني وأن تقوم الدولة بمنح الشهادات بعد اختبار، لكانت الراحة في الحياة والسهولة والوضوح في الطريق والطريقة.

لو تأملت أي حوار بين اثنين لوجدت نفسك تتفرج على مشهد في تمثيلية. التمثيل واضح من الطرفين: كلاهما لا يريد أن يُفصح عما في نفسه، وكلاهما يتحدث بيقظة وحرص شديد على كلماته ومشاعره، وكلاهما يخفي طمعه أو هدفه أو نيته، وكلاهما يخلط كل جملة بكلمة عن الدين أو الرزق أو الرضا بالقضاء والقدر.

سُئل بروفيسور متخصص في قضايا الفساد والشفافية فقال: «كلما كانت التعاملات بدون موظف كانت الشفافية أكبر».

فالبلاد التي تتم مصالحها بالموظفين هي بلاد الفصال، فالفصال يحتاج بشرًا ونفوسًا تديره وتجري تمثيليات. وحين تكون المعاملات بالماكينات والمواقع الإلكترونية، تكون الشفافية. وبهذا فالبلاد التي تصر على وجود موظف في التعامل، تتعمد توفير مناخ للفساد.

سلاسل التمثيليات لها تأثير عملي على صديق لي، لأنه لا يتقن التمثيل ولا يرى حاجة إليه، ولهذا حين يتواجد في مجلس يتكلم بلا أي نية إخفاء أو خجل، ليس عنده شيء يخفيه أو يخاف عليه من الحسد، ولكن عندما ينتهي المجلس يتلقى اللوم من الأولاد بسبب سذاجته، فأغلب ما يتلفّظ به لا يصح، والأسباب كثيرة، وخلاصتها أن المستمع سوف يفهم كلامه خطأ، سوف يظن، سوف يحترس، سوف يتحفظ، سوف وسوف بلا عدد. فالمصريون حساسون جدًا، حساسون للكلمة والنظرة والصمت والكلام، وكل ما يصدر من الإنسان يُفهم بطرائق مختلفة بحسب نفسية كل شخص.

وهذه النفسية المحتارة والمحيرة هي نتاج كثرة التمثيليات، ولا حل سوى التربية من جديد على الشفافية وحسن النية وحسن اللقاء والفراق، فنتعلم الكلام الجميل والفراق الجميل والصبر الجميل.

ما بين فصال البائع والمشتري، ومحاكم الطلاق، وروتين الأوراق، وتمثيليات الوظائف والانتخابات، وحوارات الناس اليومية… يتأكد لنا أن مصر تعيش فوق خشبة مسرح لا يُغلق ستاره.

المشكلة ليست في التمثيل وحده، بل في أن الممثلين نسوا أنهم يمثلون، فصار الوهم واقعًا، وصارت الأدوار أثقل من النفوس. والنجاة لن تكون إلا بالخروج من النصوص الزائفة إلى الصدق، من المشاهد المصطنعة إلى المعاملات الواضحة، من طول الحوار المرهق إلى كلمة حق صافية.

فإذا استبدلنا التمثيليات بالشفافية، والفصال بالوضوح، والخصام بالمصارحة، صرنا أمة لا تضيّع جهدها في عرضٍ لا ينتهي، بل تصنع مسرحًا حقيقيًا للحياة، تُكتب عليه أدوار العدل والرحمة والخير.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.