الجدَّة العاشقة للأفلام الرومانسية

الجدَّة العاشقة للأفلام الرومانسية

اللوحة: الفنان جين جوليان

سعيد بوخليط

عاش إبراهيم مع جدَّته من أمِّه علاقة خاصة، ميَّزتها مفارقات سلوكية عجيبة أضفت عليها نكهة استثنائية شَكَّلت باستمرار جلسات حكي لأهل الحيِّ، فهذه الجدّة رغم بلوغها عمرا متقدِّما استمرَّ دأبها السَّردي لما علق في ذهنها من حكايات هتلر، الفرنسيس، دوغول، سَنِغَال، الهند الصينية، اليهود، جمال عبد الناصر، المجاعة، عام لْبونْ، الجفاف، حروب القبائل، بذخ قوَّاد الإقطاع، حِيَل النِّساء وأسرار العشَّاق، الخيانات الزَّوجية، جغرافية مراكش القديمة، طقوس الحِرَفيين التقليديين، يوميات المرَّاكشيين أيام سلطة الباشا الكلاوي…

الجدَّة المدعوَّة بالحاجَّة فَاضْمَة ذاكرة خصبة وحيَّة بامتياز، لا تكفّ يوميا على تهذيبها وإنعاشها بأحاديثها المطَّرِدة مع جيران الحيِّ من مختلف الأجيال؛ أينما انتقلت وحلت، يكفي مصادفة عبورها وإلقاء التحيَّة عليها كي تسهب حديثا. 

اعتُبرت أسرة إبراهيم ضمن أهل الحيِّ الأوائل الذين اقتنوا تلفازا أواسط عقد السبعينات، بحيث لم يكن الجهاز السَّاحر حين بداية تسويقه محليّا متاحا سوى أمام إمكانيات أقليّة قليلة، بالتالي شَكَّل اقتناؤه عنوانا للتميُّز الطبقي؛ كما جرى الوضع فيما بعد مع نفس التِّلفاز بالألوان وكذا الهاتف المنزلي، ثم بدأ تدريجيا يغزو جُلّ البيوت ويوضع غالبا بحجمه المعَلَّبِ الصَّغير جانب مذياع خشبي كبير. 

صحيح، أنَّ الضَّيف الغريب شغل وقتها الألباب وساد الأذهان وخَلَبَ النُّفوس، مع ذلك لم يكن زائرا مغترّا بهالته الحديثة بل أبقى مجالا واسعا للمذياع الأيقونة الموروثة، طيلة المدَّة السابقة عن انطلاق الفترة الزمنية المسموح بها للتِّلفاز؛ أي من الساعة السادسة مساء حتى الحادية عشر ليلا، فالتوقُّف والإغلاق والانزواء إلى الصَّمت غاية حلول نفس الموعد خلال اليوم الموالي. 

يترصَّد الجيران بفارغ الصبر التَّوقيت قصد الالتحاق فورا بمنزل أسرة إبراهيم، كي يتمتَّعوا باستيهامات الصندوق العجيب؛ الأشبه بمصباح علاء الدين. 

يستبق الأطفال باقي الضيوف، لمشاهدة حلقات الرسوم المتحرِّكة: غرندايز، مغامرات سندباد، جزيرة الكنز، لاكي لوك، دون كيشوت، توم سوير، توم وجيري، النَّمر الورديّ، ثمَّ التَّباري لتقديم أجوبة حول أسئلة بعض البرامج التعليمية المتَّصلة بالحياة المدرسية. تنتهي حصَّتهم، ينسحبون تباعا، والعودة مباشرة إلى بيوتهم بهدف الانكباب على التَّحصيل وإنجاز الواجبات المطلوبة. 

يتقاطر الكبار لإكمال السهرة، وخلق تجمُّع شبه يومي حول جديد حلقات الدراما المصرية أو اللبنانية أو الغربية، تحضرني بهذا الخصوص عناوين مثل: 

الأيام، أبو الطيب المتنبي، عازف الليل، الوصية، غروب، ويبقى الحب، الصمت، الأخرس، سمرا، البيت الصغير، دالاس، ستارسكي وهاتش، الرجل الأخضر الخارق، المرأة الخارقة، سوبرمان، الهارب…

باختصار، مَثَّلت الجدَّة فَاضْمَة الحلقة الواصلة بين انتظام مختلف الجلسات، لأنَّها العنصر النَّوعيِّ والأساسيِّ، الحاضرة كلِّيّا وباستمرار لا يقوِّض حضورها غير فجوتين سريعتين لأداء صلاتي المغرب والعشاء، ثم تعود بسرعة كي تتسمَّرَ من جديد في مكانها ولا ترتاح إلا باستعادة ما فاتها بإلحاحها على استفسار الحاضرين. 

تهيم الجدَّة فَاضْمَة عشقا لجهاز التِّلفاز وكل ما يعرضه، وتظهر نحو الشّاشة الصغيرة عفوية صادقة وانقيادا طبيعيا وتلقائيا على نحو يبعث ضمن صفوف المشاهدين لاسيما إبَّان فترة الكبار مشاعر متضاربة ومتباينة حسب فترات المشاهدة. 

عموما، هي شخصية مرحة ومحبوبة، مع ذلك حينما تفرط وتبالغ أو تفقد بوصلة تقدير حدود الفجوات بين الكلام والصمت، تغدو مضجِرة ومزعجَة خلال تعليقاتها المصاحبة لما يعرض وقد استلهمت على طريقتها آليات التَّحليل المختلفة. 

تفترش عند عتبة الغرفة هيدورة موسمية الولادة، تتجدَّد كل سنة مع مناسبة عيد الأضحى باستغلال الوَبَرِ الصُّوفي للخروف المسلوخ. ينطلق تعليقها بتوثيق التفاصيل بمختلف حذافيرها مع الشَّرح والتَّوضيح واستطراد السؤال والاستفسار، تكرِّر قول مايقال داخل الجهاز كأنَّ المتابِعِين جماعة من الصمّ، ثم تتوقَّف مستغربة حيال تفاعل حصان لاكي لوك مع فارسه، وياسمينة صحبة سندباد: 

-”سبحان الله يا كريم، كيف صارت الحيوانات في هذا الزمن تتكلَّم مثلنا نحن البشر، بخلاف حيوانات الحقبة التي أنحدر منها!”

تتوجَّه باستفهامها نحو حفيدها إبراهيم المشرئِبِّ بِهَامته نحو التليفزيون كي يجيبها عن تساؤلها بيد أنَّه غير مكترث قط واكتفى بإبداء ابتسامة فاترة، ثم تشرع في استحضار حكاية معينة تشبه وقائع أنسنة الحيوانات ضمن متواليات الأفلام الكرتونية، قصد الإجابة بكيفية أخرى عن سؤالها وتلتفّ على الإحراج الذي أحسَّته نتيجة تجاهل حفيدها إبراهيم: 

-”مسكين ذلك الحصان الذي كان يمتنع عن الأكل والشُّرب لساعات طويلة، ويطلق أحيانا آهات تشبه أنين إنسان بسبب رفضه صراخ أبي في وجهه لأمر ما، ولا يستعيد حقا مزاجه المعتاد سوى حينما يصالحه ويثني عليه بكلمات جدّ دافئة وقد مرّر بحنُوٍّ يده على ظهره”. 

أيضا، القطط المنقلبة إلى جِنٍّ شرِّير لحظة استفزازها، والكلاب التي تذرف دموعا حينما تعشق لاسيما فترة التَّزاوج، وغيرها من الأمثلة التي تأتي عليها الجدّة دفعة واحدة تعقيبا على استغرابها من قدرة حصان لاكي لوك على التحدث بلغة البشر. 

لا تتوقَّف عن طرح الأسئلة وهي في غمرة انخراطها الوجداني مع اللوحات التليفزيونية: ماذا قال؟ ماذا قالت؟ ماذا قالوا؟ ما معنى هذه العبارة؟ ماذا يقصد بحركته تلك؟ يتجاوب معها إبراهيم لمرَّة أو مرَّتين، ينتابه السأم، يتوقَّف، يتركها تواصل استفساراتها دون جواب، قد يفتعل وضعية النَّائم حتى تكفّ عن الكلام والإزعاج، وأحيانا أخرى يأخذ الأمر على محمل الهزل متماهيا معها كي يجعل حديثها مناسبة للانشراح والتفكُّه وإطلاق العنان داخل الغرفة للقهقهات. 

عموما، يبدو ذلك هيِّنا وقابلا للتَّجاوز ووضعه جانبا، حينما يغدو السياق متعلِّقا بمشاهدة فيلم غربي وما تتضمَّنه مقاطعه بين الفينة والأخرى من مشاهد رومانسية أو حميمة، يصبح حينها الوضع مربِكا ومحْرِجا لإبراهيم؛ لاسيما إذا كانت الغرفة ممتلئة بأبناء الجيران، مع تمسُّك الجدَّة بضرورة فهم مضامين حديث اللَّقطة وطبيعة الحوار. في خضمِّ ذلك، تُصدر ملاحظات شبه هامسة مع إمعانها النّظر وتركيزها جيدا: ”ولد العفريتة”، ”مسخوطة الوالدين”، ”جيل قْمْشْ مايْحْشْمْ مايْرْمْشْ”، ”الله ينزل عليكم اللّعنة”، ”ولد الحرام”…

تبدي رغبتها في الذَّهاب، تحاول النُّهوض، تميل بوجهها يمنة ويسرة بحثا عن فردة نعل، تتلكَّأ وهي تسترقُّ دائما النَّظر إلى اللَّقطة، يحاول إبراهيم اختلاق أيّ حوار مع المشاهدين ربما ينجح في تشتيت الانتباه وتفتيته كتلة الحرج، تجدها الجدَّة فرصة كي تستوي ثانية وتأخذ وضعها المريح السابق، لكن الحظّ يخونها لأنَّ صورة التليفزيون فَقَدَتْ بغتة حالتها الأصلية المكتملة، واختلَّ توازنها، وصارت مجزَّأة إلى صور تتوالى سريعا، يجعل الشاشة مشوَّهة أشبه بمرآة متهشِّمة. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.