اللوحة: الفنان الاسكتلندي جورج هارفي
محمد نديم علي

على قارعة طريق على شكل حارتين، على جزيرته الوسطى التي تتسع لاثنين من المشاة، وقد غرست أعمدة الإنارة معلقة بها سلال الفضلات، على طول ذلك الشارع الموازي للنهر الصغير، نرى صبيا على ظهره ثقل حقيبة مدرسية، بقميصه الأبيض وبنطاله القصير، وقد أحنى رأسه للأمام. يركل حجرا بمقدمة حذائه المهترئ.
كان الصبي يستمتع برحلتي الذهاب والعودة على ذلك الطريق الموازي لنهر الصغير. لكنه اليوم على غير عادته، بدا مهموما كسيرا. لعله كان يفكر في شيء ما قد شغل عليه عقله ووجدانه.
هو بالفعل كذلك؛ ولكن ما الذي يمكن أن يشكل هما ثقيلا على قلب صبي غرير، لم يتعد السنوات الخمس من سني دراسته الابتدائية؟
إنه معلم الحساب، الذي أثقل كاهل تلاميذه بخمسين مسألة حسابية كواجب فرض منزلي أثناء العطلة الأسبوعية.
لم يستطع عقله الصغير أن يفك طلاسم سوى بضع مسائل منها، وهو غير متأكد من صحة الحل. مما زاده قلق على قلق.
إذن ستكون مذبحة للصغار أمام السبورة. إذ يتفنن ذلك الأستاذ المدعو (سعيدا) في عقاب من فشلوا في الحل. ليتعالى صراخ التلاميذ وبكاؤهم؛ مما يزيد من حنق معلمهم، فيشعر بغبطة عجيبة، ويستمر في التلذذ بلومهم، وتقريعهم، وقرص آذانهم، وضرب أطراف أصابعهم الصغيرة بعدة مساطر خشبية حتى تكاد أظافرهم أن تنخلع!
***
كان الصغير يداور ويناور فوق رصيف الشارع، يبدو وكأنه مترددا بين الرجوع إلى بيت أمه وأبيه وأخوته، ومتابعة المسير نحو مدرسته، غير أنه استقام بظهره قليلا، وتابع مسيره نحو دار العلم، متتبعا ذلك الحجر الصغير، ليركله بمقدمة حذائه المهترئ.
ما الذي حرك شهيته قليلا نحو طريق المدرسة، إذن؟ ربما تذكره لدرس الرسم الذي يمتد لحصتين كاملتين، يستمتع فيهما بمخالطة الألوان ومخاطبتها، ومشاكسة الأوراق البيضاء بفرشاته الصغيرة. فينتج عن مشاغباته اللونية، رسوما يشهق من روعتها أقرانه الصغار، ويثني عليه معلمه الفنان الكبير، وينشر رسومه على اللوحة المواجهة للتلاميذ، آمرا إياهم بأن يصفقوا لزميلهم الفنان الصغير.
نعم، سيكون درس الرسم في الحصة الثانية والثالثة، لكن نفسه تنقبض من جديد، كيف ستمر الحصة الأولى من الحساب والعقاب!
***
تضخمت الغصة في نفسه حتى كادت أن تخنقه، وكانت تكدر عليه صفو ذلك الصباح الجميل، كلما تذكر كم الواجب الحسابي الذي فشل في حله، وها هو مرتبك الخطى ثقيل الجسد، يتحرك نحو مدرسته ببطء شديد، متمنيا أن يطول الطريق، أو أن يحلق هو في سماوات الله فارا بجلده مع عصافير الصباح، أو أن يختفي ذلك المعلم إلى الأبد.
لمن يشكو همه المضني؟ ولمن يصرخ؟ لولي أمره؟
إذا لا تهمه بعدم الانتباه وضربه أمام معلمه.
ومن سيأخذ عنه دفتر الحساب، الذي شعر وكأنه قنبلة موقوتة داخل حقيبته الجلدية، فيلقيه بعيدا عن عيني الأستاذ الجاحظتين الرهيبتين.
***
عندما بدأ طابور الصباح، شعر بشيء من الغثيان، وكان عضوا بارزا في الإذاعة المدرسية كقارئ لنشرة الأخبار. ولم تستطع قدماه أن تحملانه نحو الميكروفون على المنصة. فنقلوه مفكك الأوصال إلى غرفة الطبيبة.
مرت تلك اللحظات بين يدي الطبيبة سريعة، وبمجرد تحسن حالته، ساقوه إلى فصله، متلعثم الخطى ثقيل التنفس، سريع النبضات.
***
لم يكن معلم الحساب هناك داخل غرفة الدرس. غريب ألا يكون موجودا، بل غريب أن يتأخر كل هذه الدقائق! لعله هنا أو هناك، عند المدير أو صاعد على الدرج. جلس التلاميذ في صمت وقلق، انتظارا أن يقدم عليهم ذلك الوحش، متأبطا خيزرانته وكتبه، لكنه لم يأت. تعالت همسات التلاميذ رويدا رويدا، وبدت بعض ملامح ابتسامة شريدة، لكنها سرعان ما تغيب تحت قسمات الانتظار والترقب والقلق.
***
وتبدل الحال تماما، عندما دخلت مشرفة الجناح: قيام.
نادت قائمة الأسماء متأكدة من الحضور والغياب.
ثم صاحت بهم: على كل واحد منكم أن يحمل معه حقيبته. وأن يقف ممسكا بيد زميله.
واصطف تلاميذ الفصل في طابور منتظم. قادتهم المشرفة نحو قاعة أخرى؛ أستاذ عبد الحي.. نأسف يا سيدي، لو سمحت! عليك باستضافتهم عندك في قاعة الرسم لثلاث حصص اليوم، نظرا لتغيب الأستاذ سعيد لوعكة صحية مفاجئة أصابته هذا الصباح.