سرّ الخالة كاملة

سرّ الخالة كاملة

اللوحة: الفنان العراقي محمود صبري

شهربان معدّي

على أطراف ثلاثة عقود من الزمن، قدمت الخالة “كاملة” لتُزفّ في عرس صغير متواضع في قريتنا، كاد العرس يومَها أن يكون شبيها بالجنازة..؟ فالعريس أرمل عجوز وقد بلغ نهاية السبعينات، والعروس سيدة في أواخر الأربعينات من جنوب لبنان، واسمها كاملة.. الخالة كاملة.

وأذكرُ جيدًا كيف تهامست النساء، قبل وصولها إلى بيت الزوجية بوقت قصير، فبعضهن تَحَدّثن عن سمنتها ودمامتَها بلا مواربة، وأخريات شهدن أنها فقدت إحدى عينيها ولا ترى إلا بعين واحدة، ومنهن من أكّد أنها مطلّقة بعد أن اكتشف زوجها أنها عاقرٌ لا تصلح للحفاظ على ذريته.

كلُّ العيوب التي تخطر في البال، والتي لا يتجرأ أحدهم إلصاقها علانية بالآخرين؟ أُلصقت بالمرأة المسكينة. حدث ذلك كله قبل وصولها إلى القرية ببعض الوقت، لا يتعدى في الزمن ساعة واحدة.

كانت الوافدة الجديدة من الطلاسم المختومة سبع مرات، قبل أن يذوب الشمع الأحمر، وتنكشف شخصيتها الحقيقية، أمام هؤلاء النساء الفضوليات، اللواتي يحتجن دائما إلى الإشاعات والأخبار الجديدة ترفد فضولهنّ كالحاجة إلى الماء والهواء.. فالقادمة امرأة غريبة أتت من لبنان ولم يُعرف أصلها من فصلها ولا خيرها من شرها بعد؛ ما حمل تلك الزمرة الفضولية من النسوة؛ أن يفصلن أثوابا مختلفة المقاسات لتلك المسكينة، قبل قدومها لبيت الزوجية بوقت قليل.

وهكذا ساد السكون وصمت القبور على دار الجار الوقور وبيته الريفي المتواضع، وكأن الطير حطّت على كل من كان في العرس المتواضع المغمور، وحينما وصلت العروس اشرأبت الأعناق وحُبست الأنفاس، وكأنها كائن فضائي مختلف، هبط لأول مرة من السماء إلى هذي الديار.

دخلتْ برفقة إحدى قريباتها الآتية معها، عملا بالأعراف في المكوث مع العروس، لتؤنس وحدتَها بضعة أيام فحسب. لكن المفاجأة..؟ حينما لم تكن العروس سمينة ولا قصيرة بل قدّها متناسقٌ ميّاس، وخطواتها رشيقة كأنها فراشة في العشرين. وهكذا همست كل واحدة لجارتها تقول: فلتنتظر بصبر لا ينفد أن تكشف العروس عن وجهها. لعلها كما أشيع بعين واحدة!؟ وفي وجهها ولون بشرتها ما حملها أن تقطع مسافة طويلة، من ديار إلى ديار لتزُف للأرملِ العجوز.

وحينما كشفت إحدى قريبات العريس، عن وجه العروس احترامًا لشيخوخته من الإحراج؟ فوجئ الحضور أن في هيئة المرأة سمات من الجمال لا بأس بها، فهي بيضاء كالحليب وليست بعين واحدة، ولا يوجد في وجهها المغطى ما يعيب، رغم نظرتها التي توحي بخشونة مكتسبة. لكن فمها كان دقيقا وأنفها مرتفعا يوحي بالكبرياء، وربما زاد اللغز من جمالها المقبول وحضورها المهيب تساؤل النسوة، كيف ترضى امرأة بشبابها، الزواج من هذا الأرمل العجوز؟

وحينما نتقت إحدى الحاضرات زيق ثوبها..؟ لترى سببا آخر حملها على الرضا بهذا الزواج! تصدَّع نظر الجميع عندما صافحت النساء الحاضرات، بيدها العاجية وكأنها قدَّت من لون الثلج ونعومة الحرير.

أمسكت أمي بيدي وقالت لي: تعالي يا عزيزتي نسلم على جارتنا الجديدة قبل المغادرة، فنحن اقرب الناس إليها ومن واجبنا أن نرحب بجيرتها، وفوجئنا كثيرًا عندما بادلتنا التحية بمحبة وود بَانَ في قسمات وجهها. لكن صوتها مع حنانه وحلاوته كان حازمًا ومنضبطًا. 

وهكذا مضت الأيام، وعبثا حاولت إحدى الجارات المتطفلات ممن يُجِدْنَ التقرب والتدليس؛ لكي تعرف من الخالة “كاملة” من الأسرار ما يشفي فضولها، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل! حتى بعدما رمت لها الطعم في الصنارة، حينما كانت تتظاهر أنها تكشف لها أخطر أسرارها الشخصية ليطمئن بالها “وهي طريقة نسوية متداولة” لكي تمسك بطرف الخيط. لكن محاولاتها ضاعت سدى. فالخالةُ كاملة كانت حريصة ألا تكشف لأحد عن أسرارها!

هكذا مضت الأيام وتعاقبت الليالي، وتغير كل شيء في بيت العريس العجوز! وعاد ماء الشباب يجري في وجنتيه، وبدا طلقا مغردا كأنه عاد إلى العشرين! حينما عمدت الخالة كاملة لتطبخ لزوجها طعام بلادها مما تعودنا متابعته على شاشة التلفاز. ثم قامت إلى ملابسه تغسلها وتكويها وكوفيته البيضاء تفوح منها رائحة أطيب معطّرات الغسيل.

والأرمل العريس كان يملك حاكورة صغيرة بجانب بيته مزروعة بالأشجار المثمرة، فطلبت منه العروس أن يزودها بفأس، لتغرق في تربة الحديقة وتروي أشجارها، التي سرعان ما اخضوضرت، ودبتْ فيها الحياة بعد أن قلمتها واعتنت بري تربتها، فزرعت فيها مساكب النعناع وإكليل الجبل والميرمية والريحان، ما عبق به مدخل الحاكورة وانتشر في كل الحارة والجوار.

ومن كان يعاني من وعكة صحية من أطفال الحي؟ كان يقصد الخالة كاملة فتحضِّر له الشاي، ومغْلي الزهورات وترقيهِ رقيَتها الشافية من صيبة العين، فيخرج من بيتها معافى كالغزال.

وفي إحدى الأمسيات الخريفية الباردة، شعرتُ بوعكة صحية فقصدت الخالة كاملة شأني شأن الآخرين، لألتمس الشفاء على يديها، فوجدتها تجلس تحت شجرة معمّرة في الحاكورة، وهي تنشج وتندب حالها على غفلة من وجودي وهي تغني وتقول: “لأبعث سلامي على ورقهن… يا قلبي الدّايب من يوم فراقهن، يا ريتني محرمة ومسّح عرقهن، وظلني دوم في قلوب الأحباب..”

ثم اجهشت غربتها بالبكاء، وقد اقتربت منها وأمسكتُ يدها وانحنيت نحوها متوسلة بأن تكف عن البكاء، وقلت لها ما خطبك يا خالتي كاملة، أشركيني بآلامك، هوّني عليك، تكلمي..! فأنا مثل ابنتك، لعلي أخفف عنك بعض معاناتك..؟ نظرت إليّ بعين حزينة وقالت بحسرة ملحوظة:

– فراق بلادي سحق قلبي يا ابنتي! لكمْ اشتقت لوطني وتربة أهلي.. وهذه النسمات الشمالية الباردة..؟ تذكرني بلبنان موطني وموطن عشيرتي وبني قومي..! كل خلية من خلايا جسدي تشتاق للفحة من نسيم الشمالي، وكل صورة ترصدها عيناي؟ تبحث عن مشهد يذكّرني بأصْلي وفصلي.

تأملت في قسمات وجهها الذي لا يخلو من رقة ووسامة، وربتّ على كتفها بلمسة حانية؛ وسألتها بحذرٍ شديد خوفًا أن أجرح مشاعرها: – إذًا لماذا تنازلت عن وطنك..؟ وما حملك أن توافقي على هذا الزواج يا خالتي..! ليضنيكِ إليه الحنين؟ وهل هناك من أكرهك على هذا الزواج؟

رفعت إلي نظرة مترددة وقالت بحسرة مليئة بالمرارة: خرجت على إرادة أهلي وعصيتهم وأنا صبية طائشة غريرة، حينما أحببت جنديا مغمور النسب وتزوجته.. وأنا ابنة عائلة واسعة الثراء، ما جعلني أسدّد ثمن قراري غاليًا، حينما تحدّيت الجميع وتزوجت بمن أحببته، بالرغم من مُعارضة أهلي وعائلتي، الذين أنكروا عليّ قراري المتهور وتنصّلوا من مسؤوليتهم معي. وهكذا رضيت بالكفاف طوعًا وإخلاصًا لزوجي، الذي مات في الحرب الأهلية بعد عقدين من الزمن. 

واسترسلت في حديثها بعيون دامعة وصوت حزين: بالرغم من أنه كان فقيرًا معدمًا، ولكنه كان شهمًا وجنديا مؤمنا، وكنت دائما في باله ورفيقة دربه في مهماته، فصرت أؤمن وأتطلع إلى كل ما يصبو إليه ويعجبه، وأنتهجُ أسلوبَه في الحياة معي. هكذا علمني التضحية ومحبة الأرض، وكنت سعيدة معه بالرغم من أننا لم نرزق بأطفال. لكنه كان بجانبي يعوضني عن كل ما يعوزني.

وعندما نشبت الحرب الأهلية، عرف القدر كيف يسخر من حبنا لأنني فقدته، وبفقدانَه فقدت الأمل وطعم الدنيا، ولكم منيّت نفسي أن أرزق بولد أو بنت تعوضني عن رحيل زوجي. لكن قدري حرمني نعمة الإنجاب! لأعود أدراجي إلى أهلي كسيرة ذليلة القلب، أجرُّ ورائي أذيال خيبتي.

وهكذا لم تسمح لي كرامتي وهوني على نفسي، أن أحيا بين ظهرانيهم بعد أن عصيتهم وخرجت عن طوعهم وإرادتهم! ولهذا رضيت بأول عرض زواج لكي أهرب من همومي وأحزاني التي تكبدتها في وطني! وأشعر الآن أن شوقي للعودة يفوق تعبي وأحزاني وهمومي. 

ثم راحت تنشج بحرقة كطفلة صغيرة تخلى عنها أهلها وتركوها على منعطفات خطيرة لا تدري ما تفعله.. فاحتضنتها برفق وقلت لها: منذ اليوم وصاعدًا أنا ابنتك التي كنت تتمنين وأختك التي تركتِها في وطنك.. كلنا أهلك ومحبوك يا خالتي.. ومن ذلك الحين صفا الود بيننا وارتفعت الكلفة بالتعاطي بيننا، وأصبحت خالتي كاملة واحدة من البيت، بعد أن كانت غريبة الدار والأهل.

ومرت أعوام كثيرة ملأت خلالها الخالة كاملة حارتنا رفقًا وحبًا، لأنها كانت كريمة النفس والكف! رقواتَها مباركة وحضورها مهيب! امرأة لم نسمع من شفتيها إلا كلام المودة، وقد علمتنا كيف نحيا بالمحبة والخير وحده.. وكيف لا نبتغي أو نطلب لأنفسنا أكثر مما نستحقه.

بالأمس رحلت الخالة كاملة بعد سنوات عاشتها بيننا، وكانت مثال المرأة العصامية الشريفة التي تركت لوعة عالية في قلوب من عرفوها! وكانت تتمنى أن تحظى ولو لمرة واحدة برؤية بلدها الحبيب، بجباله ووهادَه، أوديته وغابات أرزه، وسهوله التي تتجمع فيها خيرات العالم بأسره. رحلت وبسمة حزينة تتردد على شفتيها، وتتمنى أن تتكئ ولو لحظة في الزمن على سياج بيت أهلها المطرز بأزهار الآس والياسمين.


القصة مختارة من مجموعتي القصصية “لدموع لم تسقط” – شهربان معدّي.. كاتبة من الجليل.

رأيان على “سرّ الخالة كاملة

  1. شكرًا بحجم السّماء
    أستاذي القدير..
    عندما يتحوّل النصّ من مجرّد حبر وورق
    إلى لحم ودم..
    ويحفر عميقًا في وجدان القارئ..
    فهو نصٌ ناجحٌ…
    كم شرّفني مرورك الأثير.

    إعجاب

  2. جميل أستاذة شهربان. قصة إنسانية تحفر في عمق الشخصية الحكائية و توظف الوصف بفنية عالية. شكرا على تقديم هذه الهدية الممتعة.

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.