اللوحة: الفنان المصري حسين بيكار
حكايات نجيب محفوظ ومرآة الركود
في رواية (الحرافيش) لأديب نوبل نجيب محفوظ، عشر حكايات لعشرة أجيال متتالية. لو اعتبرنا الجيل عشرين عامًا، لقدّرنا أن الحكايات كلها، والتي جرت خلال الفترة التي خضعت فيها مصر للعثمانيين، استغرقت قرنين من الزمان. وكلما قرأت القصص المتتالية لا تستطيع مقاومة الدهشة؛ فالروايات تجري في حارات القاهرة، ولو قام المؤلف بتغيير ترتيب القصص لما شعرت باختلاف، إذ إن «المجتمع – الناس – طبقاتهم – أفكارهم – عاداتهم – مخاوفهم، وكل ما فيهم» لم يتغير.
هناك ملاحظة أخرى غير سارة، وهي أن الرواية لو تمددت للوراء قرنًا أو قرنين، لما حدث اختلاف واضح؛ فالركود الذي كانت فيه مصر في العصر العثماني حفظ المجتمع المصري في ثلاجة السكون والتخلف، حتى جاءت الحملة الفرنسية لتبدأ مصر في يقظتها.
مصر الحديثة: قرن من التغيرات
لنتخيل أديبًا يكتب سلسلة روايات حدثت خلال القرن الأخير، قرن واحد وليس قرنين، هل سيكون الأديب حرًّا في الكتابة كما كان أديب (الحرافيش) حرًّا في كتابة تؤرخ وتدور أحداثها عبر قرنين؟
لو تم تأليف سلسلة مثل (الحرافيش) للقاهرة في الفترة بين ثورة 1900 إلى عام 2000، خلال قرن كامل، فسوف يضطر لمراعاة التغيرات التي حدثت وتأثر بها «الاجتماع والسياسة والدين والاقتصاد… إلخ».
تغييرات تتراوح بين:
- الاحتلال البريطاني.
- ثورة 1919.
- صراع الأحزاب والإنجليز والقصر.
- أثر الحربين العالميتين على مصر.
- الجماعات الدينية والشيوعية والليبرالية.
- الاستقلال.
- عصر جمال عبد الناصر والتأميم والحروب.
- عصر السادات والحرب والانفتاح ومبادرة السلام.
- عصر مبارك واستراحة المحارب مع استقرار ثقيل رافض لأي تغيير، ومؤدٍ لتكوّن طبقات وتحالف بين طبقات.
كل هذه الأحداث جعلت الشعب في كل جيل مختلفًا عن الذي قبله، وهذا النشاط بعكس السكون التام الذي عبر قرنين في رواية (الحرافيش). وسوف تصبح الرواية عشر روايات مختلفة، ولا يمكن اللعب في ترتيبها الزمني، إذ يصبح كل سيناريو خاصًّا به، ولا يصلح ليكون سيناريو للقصة التالية.
يقظة مع الحملة الفرنسية
“وإذا كانت حكايات محفوظ مرآة للركود، فإن الحملة الفرنسية كانت المرآة الأولى لليقظة…”
ليلة هادئة في القاهرة أواخر القرن الثامن عشر، يجلس المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي إلى أوراقه، يدوّن ما رآه في أيام الحملة الفرنسية. لم يدهشه فقط مدافع الفرنسيين، ولا مطابعهم، ولا خرائطهم، بل مشهد أبسط بكثير: فرنسي يدفع أمامه عربة خشبية صغيرة ذات عجلة واحدة، محمّلة بعدة قفف من التراب.
توقف الجبرتي طويلًا أمام هذه “الأعجوبة”. كيف لم يخطر ببال المصريين – الذين اعتادوا حمل القفة على ظهورهم – أن يصنعوا أداة بسيطة تسهّل الجهد؟
لكن المفارقة الأدهى أن المصريين القدماء قبل آلاف السنين كانوا أول من رسم العربات الحربية على جدران المعابد، وأول من طوّع العجلة لخدمة الحرب والزراعة. فكيف إذن ضاع هذا الإرث؟ وكيف انقطعت عن ماضيها كليًا، فعاشت «فقدان ذاكرة حضارية»؟
فالمجد الحضاري ليس في الإنجاز الأول، بل في القدرة على حفظ الذاكرة وتطويرها عبر العصور. الأوروبيون عاشوا انحطاطًا طويلًا، لكنهم نهضوا منه بفضل تراكم ما حفظوه من الإرث الروماني والإغريقي والإسلامي، ومصر القديمة اخترعت لكنها لم تحافظ على التراكم، فضاعت إنجازاتها وسط الركود الطويل.
القصة تكشف حقيقة عميقة: الحضارة ليست اختراعًا لمرة واحدة، بل قدرة على المراكمة والتطوير المستمر.
عصر الأسرة العلوية والخطو الهادئ المعتدل
شعب قعد وسكن قرونًا متوالية، ثم عقب الحملة الفرنسية التي انتهت بحكم أسرة «محمد علي»، سار لمدة مائة وخمسين عامًا بمصر خطوات هادئة إلى الأمام. وختمت تلك الخطوات بالاحتلال البريطاني، حيث كان في الصراع بين السلطات الثلاث «الإنجليز والأحزاب والقصر» ثغرات ومساحات للحركة يتنفس فيها الشعب وينال تطورًا في كافة المجالات.
وكمثال على الفرص التي تنشأ نتيجة صراع السلطات، لولا الصراع بين الدائنين الأوروبيين والخديوي إسماعيل على مشكلة الديون، لما سُمح بإنشاء البرلمان المصري كي يستعين به على الأوروبيين. وبسبب البرلمان وما تبعه من صحف، تطورت شخصية الشعب، وأصبحت مصر قدوة في «العلم – الثقافة – الفنون – السياسة – الحداثة… إلخ» لكافة الشعوب العربية.
حتى إن «غاندي» تمنى أن يقابل «سعد زغلول»، وكان حلمه أن تنال الهند مثلما نالت مصر من نضج وإنجاز سياسي. وأصبحت مؤلفات طه حسين والعقاد وزكي مبارك والمنفلوطي تُقرأ بشغف في بلاد العرب، ونشأت وتطورت صناعة السينما والفنون في مصر. ولو استمر هذا الخطو الهادئ بعد رحيل الاستعمار، لكانت مصر في مقدمة دول العالم.
من الاعتدال إلى العجلة الطائشة
لكن الذي حدث بعد الاستقلال كان على العكس تمامًا من المرحلة العثمانية؛ فبدلًا من السكون التام، توالت بعجلة تغيرات حادة متتالية، خطوات ما تكاد أن تبدأ ويدفع الشعب ثمنها، حتى تصدر قرارات أخرى في اتجاهات مختلفة وقد تكون عكسية. وهكذا أصبح الشعب وكأنه في سيارة تحملهم في طرق غير ممهدة بغرض الوصول، وإذا بالسائق يندفع بسرعة متهورة إلى الأمام، ثم ينحني يمينًا، ويندفع بسرعة متهورة أخرى، ثم يتجه للخلف ويندفع بأقصى سرعة، وهكذا ظل السائق يغامر ويدير دفة الوطن في كل الاتجاهات، خاضعًا لنزوات وتقديرات وأهداف ضالة وطائشة.
ظل الركاب في العربة ولم يتذوقوا وصولًا ولم يكسبوا ثمرة. أصبح النشاط كله سيرًا مندفعًا في كل الاتجاهات، حتى أصبح الركاب شديدي الضعف في «النظر – التحمل – الفكر – التساند – الحوار – الأخلاق». فالسفر المتواصل في كل الاتجاهات أجهدهم، فتبلدت مشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم، لأن السكون المستمر تبدّل إلى حركة مستمرة بلا بوصلة، وكأنه الحرث في الماء.
استيقظ عامل في مصنع على خبر بيع المصنع ضمن قرارات الانفتاح، فوجد نفسه مطرودًا بعد سنوات من الخدمة، فشد الرحال إلى الخليج بحثًا عن لقمة العيش. وبعد عقدين، وقف شباب الجامعة بطابور طويل أمام السفارة يحمل أوراقه في ملف أزرق، يحلم بفرصة هجرة. كلاهما كان ثمرة مباشرة لاندفاع العربة الطائشة بلا بوصلة.
والبداية كانت رحيل الاستعمار، وإلغاء الأحزاب، وما تلا ذلك من حروب متتالية، وتشتت الانتماء بين التيارات الماركسية والليبرالية والدينية، وما بين هزيمة ساحقة ونصر عظيم، وحرب وسلم، وفقر وغنى فاحش، وقعود وهجرة، وتدين سلفي وتحرر غربي؛ تبهدل الشعب في هذا الهرج الذي لم يعطِ أي ثمرة حتى اليوم.
ثلاث لوحات لفهم المصري
وبهذا تم رسم ثلاث لوحات لسيارة:
- «سارت بسرعة تكاد تكون صفرية، وفي دوائر مغلقة لعدة قرون».
- «سارت إلى الأمام سيرًا طبيعيًا يجمع بين السلب والإيجاب لقرن ونصف».
- «فجأة أصبحت العربة طائشة لما يقرب من قرن، وإلى اليوم».
هذه اللوحات الثلاث يجب أن تؤخذ في الاعتبار حين نحاول فهم المصري اليوم من عدسة علم الاجتماع، فلو لم ننسب «المزاج واللغة والعلاقات والسلوكيات والطباع… إلخ» المصرية إلى هذا التاريخ الذي تمثله اللوحات الثلاث، فسوف ننجرف إلى التسرع في إدانة ظالمة للإنسان المصري.
النموذج التركي لعربة الشعوب
في الحربين العالميتين الأولى والثانية، انحازت تركيا إلى ألمانيا، وتحملت مثلها ثمن الهزيمة الثقيل. وحين أرادت ألمانيا بعد الحرب الثانية بناء الدولة من جديد، استعانت بحلفائها الأتراك، وانتشر الإنسان التركي في كل المهن وتخلل كثير من شرايين المجتمع الألماني.
تتابع ميلاد أجيال تركية في المجتمع الألماني، تشرّبوا كل ما فيها من «خبرات وعلوم وإدارة وسياسة واقتصاد وآداب… إلخ»، وتشربوا العقلية الألمانية بانضباطها وعاطفتها ومزاجها. وألمانيا قطعة من أوروبا، وبهذا أصبح لدى تركيا ملايين الأتراك الذين لديهم مؤهلات نقل الحداثة والحضارة كاملة إليهم.
ومع ذلك ظلت تركيا متخلفة كثيرًا عن أوروبا، لأن قادة تركيا الجنرالات، كانوا أشبه بمصر في قيادة عربة الشعب، قرارات كثيرة متعارضة، ولا تأخذ فرصة النضج ونيل الثمرة، وهذا بالإضافة إلى تسرب الفساد. حتى جاء «أردوغان» وحزب «العدالة والتنمية»، فكل ما فعله هو «السير المعتدل وتحديد الهدف»، وبهذا القرار اليسير توفر المناخ للاستفادة من أتراك ألمانيا، وفي عقدين أصبحت تركيا دولة عظمى في كل المجالات وتنافس الدول الكبرى.
ويرجع السر دائمًا إلى قادة الشعوب الراشدين. وبتحرر سوريا اليوم، أصبح لديها نفس الفرصة بجوارها مع تركيا، فلو كانت القيادة رشيدة لنقلت الحداثة التركية إلى سوريا العربية.
***
واليوم، في زمنٍ تتبدّل فيه الخرائط بالعقول لا بالجيوش، تقف مصر والعرب أمام ثورتهم الأجمل؛ ثورةٍ بلا مدافع ولا احتلال، بل (ثورة وعيٍ ومعرفةٍ وذكاءٍ رقميٍّ متقد). وليس الطريق إلى النهضة سباقًا في السرعة، بل مسيرًا معتدلًا يعرف غايته ولا يضلّ دربه. فإذا صفَت النيات، ورشدت القيادات، وتسلّح الشعب بالعلم والإدراك، عاد الميراث الحضاري المصري يتوهّج من جديد، لا ليستعيد ماضيه، بل ليصنع مستقبله.
